تبدأ حكايته البعث السّوري في سنة 1932، عندما عاد كل من ميشيل عفلق المسيحيّ وصلاح البيطار من باريس إلى سوريا بعد انتهاء دراستهما هناك مفتَتِنين بأفكار قوميّة، وظّفاها في تأسيس “جماعة الإحياء العربي” التي أصدرت مجلة “الطليعة” في عام 1934، ثم أسّس عام 1947 “حزب البعث العربي الاشتراكي”، الذي أخذ منذ نشأته مفهوماً للقومية من الأفكار والتجارب القوميّة الأوروبيّة، وخصوصاً تلك التي طرحت بصدد مقوّمات القوميّتين الفرنسيّة والألمانيّة. زكى الأرسوزى: رجل من” الطائفة العلوية ملحد”، لا يتكلم العربية، متأثر بمبادئ الثورة الفرنسية وبالنازية خاصة كتاب نيتشه (هكذا تكلم زرداشت عن موت الإله ونشوء الإنسان العظيم)، بدأ يتعلم العربية بعد سنة 1940، وكان الأرسوزي يرى أن عصر الجاهلية العربية هى مثله الأعلى ويعتبرها المرحلة العربية الذهبية.
وأعلن وصول حزب البعث إلى السلطة بانقلاب عسكري 8 مارس1963 . فاعتلت فئات عسكرية ومدنية من الطبقة الوسطى والدنيا الريفية سدة الحكم، وأزاحت الفئات البرجوازية المدينية التقليدية، بعد أن تمكّن الحزب من قطف ثمار الحراك السياسي في سوريا، إبان فترة خمسينيات القرن العشرين الماضي.
امتطى الحزب صهوة العسكر بعقيدة الانقلاب العميقة في أدبيّات منظّريه، و كثيرا ما يغطي الانقلاب على الفقر الإيديولوجي. ثم بنت النخبة العسكرية التي حكمت باسمه نظاماً تسلطياً شمولياً، صادر جميع أشكال الحراك السياسي والمدني والاجتماعي المخالفة له، أو تلك التي لا تحلب في إناء نظام وصار مجرَّد نعْل لبسه الطائفيُّون لحكم سورية. عرف الحزب منذ نشأته بجمله “الثورية” الفارغة من أي محتوى حقيقي و بالتصفيات الداخلية والمؤامرات والانشقاقات وفي كل مرة تتجدد ذرائع القتل.
سنة 1967 كان حافظ الأسد وزير الدّفاع زمن الحرب الخاطفة التي شنتها اسرائيل على العرب و التي أطلق عليها الغرب “حرب الدقائق الستة”، لأن قوات الدفاع المصرية انهارت في تلك البرهة الزمنية القصيرة. و يجمع المؤرخون يمينا ويسارا ،ما عدا المرتزقة، ان سقوط مدينة القنيطرة كان قبل ثلاثة أيام من دخول أي جندي إسرائيلي للجولان وأعلن عن سقوطها قبل أن تندلع المعركة أصلا مما أحبط عزائم الجنود والقادة.. ورغم التنكيل والتشريد فقد ظل الوطن في وجدان المظلومين مستقرا وفرق الشرفاء بينه وبين النظام السياسي. ففي 31 مارس طالب المسجونون بالإفراج للمشاركة في الدفاع عن الوطن ،فرد عليهم قادة الجيش نحن منتصرون لا محالة. في حين أن الواقع يثبت أن وزير الدفاع السوري ورئيس أركان الحرب لا يعرفان غرفة العمليات. لم تكن الأحزاب القومية في المنطقة تثق ببعضها البعض. وكانت قياداتها في صراع خفي حول زعامة الأمة العربية. وقدر النظام السوري آنذاك أن تصفية عبد الناصر سياسيا لا تتم الا بهزيمة مدوية و شماتة به ، جاءت الأوامر تأمر بعدم المشاركة في المعركة.
بيع الجولان والمقايضة من أجل البقاء
طمأنته اسرائيل النظام السوري أنها لن تتحرّش بسوريا اذا لم تتدخل في المعركة . وبعد ان أنهت موضوع مصر عادت اليها تملي الشروط. لا يختلف اثنان من المراقبين للشأن السوري في علاقته باسرائيل ان الاتفاق بين النظامين كان على قاعدة “البقاء من أجل ضمان البقاء” أي بقاء النظام السوري شرط إبقاءه على وضع الجولان على ما هو عليه. إذ أن الهضبة منطقة استراتيجية تحتل موقع الرأس من الجسد الأمني لدولة لا تأخذها سنة ولا نوم أمنيا وعسكريا بعد أن قامت على الرعب الدموي.
المأساة والملهاة
المأساة هي الملهاة إذا أضفنا أليه عامل الزمن. هكذا عرف أحد الكتاب المأساة في لحظة إشراق فلسفية. تجلت هذه الحكمة في حرب 1967 التي وصفت بالفضيحة بعد أن هزمت فيها 3 جيوش عربية بطريقة عجيبة.
اشتهر في تلك المعركة “أحمد المير” القائد في الجبهة. وردد الناس طرفة حولوها الى أغنية بعنوان “احمد المير والهرب على الحمير” إذ أن الرجل هرب على ظهر حماره عندما طلب من القوات السُورية الانسحاب الكيفي. والانسحاب الكيْفي، يعنى عسكريا أن ينسحب كل على طريقته حسب ما يتيحه الموقع . فاختار ،احمد المير،ْ ظهر حمار للانسحاب بعد عدم عثوره على عربة يمتطيها للعودة.
من غرائب الدهر، أن كل الذين انسحبوا من المعركة وقعت ترقيتهم. و في المقابل، عُوقب من بقي يحارب على الجبهة وكان “غبيّا”. أعلن عن سقوط القنيطرة بين ودريد واسبانيا. وكان الطبيب الأكتع وزير الصحة غير عالم بخفايا الأمور،و جاء إلى حافظ الأسد في مجلس الوزراء وقال له ” يا أبو سليمان ،لا يوجد جندي إسرائيلي واحد في القنيطرة فلمَ انسحب الجنود السوريون ؟” . صفعه حافظ الأسد قائلا أمام الجميع : ” وانت شُو دخْلك بالدّفاع” .
وضعت الحرب أوزارها، وهرَّب قادة الجيش العُملة السورية من البنك المركزي قبل أن يصل الاسرائليون إلى جنوب دمشق . كانت هزيمة أمام نظام وليست أمام شعب. فلو جمع الشباب على الأرصفة للجهاد لحرّروا فلسطين، هكذا ردد الناس الذين عايشوا الأحداث وشاهدوا أجداث الشهداء في تلك الفترة العصيبة. وشهد المفكر برهان غليون بذلك في قوله في كتاب “مجتمع النخبة”، “الهزيمة لم تكن هزيمة المواطن ذي الوعي العفوي البسيط ، بل هزيمة الايديولوجيا القائدة التي نذرت نفسها لقيادة شعوبها”. فقد اسرائيل كانت منشغلة بالجبهة المصرية. وكل الشباب الذين الذين احتجوا على الهزيمة وقع جمعهم من ساحة “عمرو بن العاص” في حماة وأخذهم إلى التدريب. وفي الحقيقة كان تعذيبا بعد أن أخبروهم أنهم سيقومون بتدريبهم قبل الحرب وإرسالهم للجبهة. نكلوا بهم في اليوم الأول زحفا على البطون حتى سال الدم منهم فلم يعد منهم الا نفر قليل.
كسبت اسرائيل هضبة الجولان ونصبت عليها قمرا صناعيا وهي تعدها موقعا استراتيجيا لا يمكن ان تتنازل عنه. كان الناس عائدين من الجبهة وكانت الطائرات تحلق فوق رؤوسهم دون أن تطلق قذيفة واحدة على جندي سوري ولو أرادت أن تبيد الجيش السوري لأبادته وهذا ما أكده شهود عيان خلال المعركة بينما صدر كتاب بعنوان مذبحة البرياء يتحدث فيه كاتبه عن القصف الاسرائيلي للجنود المصريين والمدنيين منهم الذين قصفوا وهم عائدون من الجبهة فقتلت منهم الصواعق السورية المئات. بينما قُتل خلال الحرب 130 جندي سوري 5 اسرائليين فقط.
مُقايضة الجُولان بالحُكم
قايضت إسرائيل حافظ الأسد وزير الدفاع أثناء الحرب على الجولان مقابل مساعدته على تسلم الحكم. فعليه أن لا يطالب بها. ولأول مرة يفي اليهود بوعدهم، وجعلوه يستلم الحكم. فلنظام البعث دور وظيفي في حماية الكيان الصهيوني و أشهر منجزاته، هو بيع الجولان لليهود سنة 1967م. وقصة الصفقة موجودة في كتاب “سقوط الجولان” تأليف خليل مصطفى ضابط الاستخبارات السابق في الجولان و شاهد عيان في الجبهة .
نشأ النظام بعد انقلاب حافظ الأسد على الرّفيق صلاح حديد ورئيس الجمهورية نور الدين الأتاسي سنة 1970، وسُجن رفاق الدرب واستغلظ النظام واستوى على سوقه زمن الحرب الباردة بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الغربي ووجد في النظام السوفيتي متكأ وسندا وظهيرا.
غدر حافظ الأسد بكل رفاق الأمس. برئيس السّجن الذي كان من مقربيه. وجمع الكل في اجتماع ثم زجَّ بهم في السجون وبقي البعض منهم حبيسا طيلة ثلاثين سنة. وظلَّت سورية في عهده بلد 17 عشر ألف مفقود حسب تقارير منظمات دولية في سيرة الدّم والانقلاب . طوال نظام حكمه ، كان “حافظ نْعيجَات”، اللقب الأصلي له قبل تغييره، يستخدم القضية القومية والشعور القومي لتغطية الأزمة الاجتماعية. ومنع بهذا “الفيتو” كل خصومه من انتقاد الوضع الداخلي لسوريا . فمن يجرؤ في مرحلة التربّص الإسرائيلي بسوريا والهجمة الامبريالية بتخوين السلطة وكشف عوراتها؟ لا بد أن يكون خائنا. ومن يستطيع أن يتهم القيادة بالعجز والجُبن وهي التي خاضت معركة غير متكافئة مع عدو يتربص بالأمة العربية وبقلبها النابض ؟ لا بد أن يكون من يطرح هذا خادما للمصالح الامبريالية ويطالب بتدمير ما تبقى لسوريا من جيش وعتاد.و رغم أن الجيش السوري قوامه 500 ألف جندي، فإنه لم يطلق رصاصة واحدة على جبهة الجولان. وفي كل مرة يسوّق انه مستهدف من النظام الدولي وهذا مكر إعلامي تتقنه الولايات المتحدة الأمريكية في صناعة الأبطال الوهميين. وعبقرية القيادة السورية تصير حتمية لأنها لم تسمح للخصوم بتحقيق نصر كلي وفوَّتت على النّظام الدَّولي فرض هزيمة منكرة على نظام مُمانعة عانى كثيرا من أجل الحفاظ على كيانه أمام التآمر الدولي بقيادة الكيان الصهيوني. في حين أن سر الهزيمة ليست تقنيا عسكريا ولكنه سياسي اجتماعي. يبدو عجز النظام عن تعبئة سياسية حقيقية، هو نتيجة سياسة مجتمع حوَّله القهر إلى هَشيم إنساني تذرُوه الرياح بعد أن أُثخن بالجراح الفرديّة والجماعية. والمسؤول الأول والنهائي عن الهزيمة هو الإيديولوجية القائدة، ايديولوجية الفئة الاجتماعية القائدة التي لم يكن فيها من العلمانية إلا عقلنه كل ماهو طائفي ودهْري وأَثِر ووَضيع. فكلُّ شيء يصلح ان يكون شيطانا، طالما يمكن تبرير الخطأ عن طريقه. كان الإخوان شيطان النظام الأكبر. سَحَقهم في مجزرة حماة الدموية. وبلغ عدد الضحايا 38 ألف قتيل بشهادة رفعت الأسد نفسه: “لا أريد أن أرى بيتاً واحداً لا يحترق ” .. هذا ما قاله رفعت الأسد وهو يُصدر أوامره لضباط سرايا الدفاع لإبادة المسلمين فى حماه ، كما اعترف مُتفاخراً بأنه قتل الإخوان المسلمين المدنييّن العُزل بحماه، وذلك أمام أحد رجال الأعمال اللبنانيين بقوله : ” قتلنا 38000 سوري ” ، وتؤكد شهادة الكاتب والصحفى الامريكى ” توماس فريدمان ” فى كتابه “من بيروت الى القدس” الذي صدر عام 1989، إن الضباط الذين كانوا تحت قيادة ” رفعت الأسد ”، اعترفوا صراحة بأنه وجه لهم أوامر صارمة بقتل الاخوان المُسلمين ، هذا بجانب السجناء السياسيين الذين أُودِعوا في السجون العسكرية عشرات السنين، كما تم إنزال عقوبة الإعدام بكل مواطن ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين. تلك هي الطبيعة الوحشية للنظام وطبيعته الأمنية المغلقة. وراء الأكمة ما وراءها..
ما حقيقة هذا النظام الذي يبدو البون الشاسع بين ظاهره وبين حقيقته؟ بين رئيس وبين متنفذيه؟ إليكم بعض حقائق هذا النظام المتهرئ، والتي يعرفها السوريون جيداً، مما دعاهم للخروج على هذا النظام والاستعداد للتضحية من اجل إسقاطه :هذا النظام لا يقاس بفترة رئاسة بشار الأسد بل هو امتداد لحكم أبيه المستمر منذ عام 1963. وهو أول نظام جمهوري استطاع أن يورّث الحكم، أسوةً بالأنظمة الملكية.
الحزب والجيش و عقيدة الإلحاد
حزب البعث الذي ترأسه حافظ الأسد فحكم سوريا بالحديد والنار، هو حزب علماني يعادي الإسلام عقيدةً ونظاماً ودستوراه وهو الذي صاغ الدستور السوري على مقاساته، فهو الحزب الأوحد ورئيسه هو رئيس الجمهورية السورية، ولا يحق لأحد منافسته.
ورغم أن الطّائفة العلويّة في سوريا هي أقلية دون الـ 5% من السكان، ومع ذلك فقد حصّنت نفسها بالسيطرة على كل مقدرات سوريا السياسيّة والعسكرية.. فقيادات حزب البعث، والجيش والمخابرات والأجهزة الأمنية المتعددة والكثيرة كلها تؤول إلى هذه الطائفة، ولذلك فإنها تسعى للمحافظة على امتيازاتها بكل الوسائل، وهي أقوى من الرئيس، ولذلك فان البعثيين والعلويين هم الذين قرروا توريث بشار لأبيه. وهم الذين يحولون بينه وبين إجراء إصلاحات سياسية ودستورية ترقى إلى طموحات الشعب السوري !!
في سوريا قرابة 30 جهاز أمني غالبيتها الساحقة مهمتها الحفاظ على النظام في وجه المعارضة، والشعب السوري . والأحكام العرفية، وأحكام الطوارئ التي تجيز لأجهزة الأمن فعل كل ما تراه مناسباً بعيداً عن طائلة القانون. هذه الأحكام سارية في سوريا منذ قرابة نصف قرن.
ومعروف عن النظام السوري استعداده لعقد أي صفقات مهينة مع القوى الخارجية مقابل المحافظة على نفوذه وبقائه في السلطة. وهو يحسن تسويق الهزائم وكأنها انتصارات. هكذا تصرف بعد هزيمة 1967، وبعد اضطراره للخروج من لبنان. وهو مستعد للتحالف مع أمريكا وإسرائيل وبيع إيران وحزب الله وكل المنظمات الفلسطينية مقابل بقائه في الحكم.
يخطئ من يظن أن النظام السوري يشكل ضمانة لاستمرار المقاومة الفلسطينية، أو كأنه حامي حمى الوطن والأمة العربية، او ان تحالفه مع إيران وحزب الله يشكل البديل الأوحد لردع إسرائيل ولجم مطامعها في السيطرة على كل ما هو عربي.
فإسرائيل غير راضية عن علاقة سوريا مع إيران وحزب الله وحركات المقاومة الفلسطينية، ولكنها بالمقابل “تعرف البير وتعرف غطاه” كما يقولون. فهي تعلم أن حدودها مع سوريا هي الأكثر أماناً، وأن نظاماً يعادي الإسلام والإسلاميين، نظام هو أفضل بديل تستطيع إسرائيل أن تطمئن إلى جواره.. ولذلك فان أي نظام ديمقراطي في سوريا، سيوصل على سدة الحكم من هم أفضل من حزب البعث والطائفة العلوية، وبمقدوره أن يغيّر في موازين القوى في المنطقة، وان تحالفاً مع مصر وتركيا قد يكون اقوى وأفضل لمستقبل المنطقة من خيارات النظام السوري الحالية
سنة 1990 اثناء القمة العربية :زمن حرب الخليج الأولى ، فاجأ فيها الرئيس حافظ الأسد زملاءه في القمة العربية بخطاب طويل يشدّد فيه على ضرورة صدور قرار لصالح التدخل الأمريكي الأطلسي في العراق، وكان الملك الراحل الحسين في الأردن يقود الحملة ضد هكذا قرار، فاسقط في يده بخطاب الرئيس الذي كان “بيضة القبان” التي مالت بأسف ضد المصلحة القومية وتسببت في وقوف الجيش العربي السوري في خندق الأمريكان ضد العراق. صوّت حافظ الأسد لصالح التدخّل الأمريكي في العراق وارسل قواته الى حفر الباطن وشاركت قواته جنبا الى جنب في تحرير الكويت.
فضيحة ايْباك وحارس المعبد اليهودي
التسويق المتواصل لممانعة المشاريع الصهيوأمريكية في المنطقة، سنفونية يحلو للسّلطات السورية المتهاوية العزف على أوتارها لمراوغة السوريين وإلهائهم، لكن ماذا لو كان العازف لا يلقي بالا لما يعزف ويغني في سرّه هو على ليلاه، وماذا لو اطّلع السوريون على شي من لهاث السّلطات السوريّة المتواصل لإرضاء الولايات المتحدة، فهل ستتحوّل السمفونيّة إلى نشوز يستوجب طرد العازف. فطوال السّنين الماضية صوّر النظام السوري نفسه على أنه ممانع وداعم لقضايا الأمّة العربيّة وفي مقدّمتها استعادة الأراضي المغتصبة، وما انفك يبرهن على ذلك بخطابات ناريّة تعلن جهارا نهارا الوقوف بوجه المشروع الأمريكي في المنطقة. لكن كتابا ومحلّلين يتحدثون عن أن ما نسمعه هو الجزء الظاهر فقط من الجبل الجليدي، وما خفي أعظم وأدهى. تقارير تتحدّث عن مساع سورية لتجميل صورة الرئيس السوري في أروقة صنع القرار الأمريكي مقابل أي ثمن، حتى وإن كان الوسيط مراكز أبحاث ومنظّمات معروفة بولائها لإسرائيل، في هذا السياق، تشير كبريات الصحف العالمية إلى نشاط طفا زبده على السّطح مع انتداب “تُوم دايْن ” كعرّاب لوصْل حبل الودّ بين دمشق وواشنطن، حينئذ تولّى العرّاب الموالي لإسرائيل والرّاعي لمصالحها مهمّة تهيئة الأجواء لاستقبال وفود تضمّ كبار مستشاريي الأسد من أمثال سامر سيْفان وسامي مبيّض وسامي التقي في مراكز أبحاث ذات نفوذ للاجتماع مع مسؤولين رفيعي المستوى في الإدارة الأمريكية بشكل سريّ وبعيدا عن عدسات الإعلام، ولكن من هو “تُوم داين” الحريص على تسويق نظام الأسد للأمريكيين ؟ هو الرئيس السابق لمنظمة “آيباك” الصهيونية، أقوى لوبي صهيوني في أمريكا والذي ترأّسه 13 عاما، أما الآن فهو يعمل مستشارا في منظمة “منتدى السّياسة الإسرائيلية” ومقرّها نيويورك. زخم النّشاط التّرويجي بدأ بالتّصاعد مع زيارة “مالكوم هونلاين” نائب الرّئيس التّنفيذي لمؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكيّة الكبرى والتي تضمّ 52 منظمة معروفة الولاء لإسرائيل ومنها “أصدقاء اللّيكُود الأمريكييّن” و”آيْباك” و”أبناء صهيون” و”منظّمة أمريكا الصّهونية” وبترتيب من السّفير السّوري في واشنطن ورجل أعمال يهودي أمريكي من أصل سوري، قام السّيد “هونْلاين” بزيارة إلى دمشق في ديسمبر المنصرم التقى فيها الرئيس الأسد في القصر الرئاسي، لقاء الطرفين أفضى إلى وضع خارطة طريق بين النظام السّوري واللوبيّات الصّهيونية في الولايات المتحدة من شأنها تلميع صورة الأسد ضمن دوائر صنع القرار في واشنطن وحمايته من المحكمة الدولية مقابل ترميم عشرة معابد يهوديّة في سوريا وتأجيل ملف استعادة الجولان إلى مرحلة لاحقة والحصول على دعم مالي المنظمات الصهيونية تقدّر بــملايين الدولارات. أكاديميون أمريكيون مقرّبون من نظام الأسد لم يبدوا استغرابهم لهذا الانفتاح على اللّوبي الداعم والرّاعي للمصالح الإسرائيليّة في أمريكا. مدير مركز الدراسات الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما “جورج أولاندس” يقول : “إنّ الأسد يضع إعادة بناء المعابد اليهودية في سياق الحفاظ على العلمانيّة في سوريا، هذا جهد من جانب النظام لإظهار جديّته، وغصن زيتون للجالية اليهودية في أمريكا والتي يحاول التودّد إليها، اللافت، أنه ومع بدء انهيار الأنظمة الشموليّة في العالم العربي، تسعى اللوبيّات الصهيونية إظهار النظام السوري على أنه القلعة الحصينة الأخيرة التي يمكن الاعتماد عليها كوكيل عربي في الشرق الأوسط، بالرغم من التحفظات الأمريكية على هذا الافتراض والتي أدّت، حسب الصحف الأمريكية، إلى إلغاء زيارة إلى دمشق كانت مقرّرة لرئيس مجلس العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكية السيد جون كيري” لم تحسم واشنطن خياراتها بعد، ولكن بفضل النشاط الدؤوب لسعادة السفير عماد مصطفى والمساعي الحميدة لشخصيات يهودية أمريكية ذات نفوذ مثل السيدان “داين” و”هونلاين”، من الواضح أن الإسرائيليين على الأقل باتوا مقتنعين بضرورة بقاء الأسد على كرسي الحكم، لما لا ودبابات الجيش السوري على سفوح الجولان قد اعتراها الصدأ، وبنادق كتائب الأسد الأمنية موجّهة صوب صدور الشباب السوري فقط.
عقيدة الجيش والإلحاد
أخطر شيئ في عقيدة النظام هو ارتباطه الإيديولوجي بنظام خارجي . فتثبت كل التقارير الأمنية عنه أنه ماركسي العقيدة في نسخة عربية رديئة بل يبدو آخر معقل ستاليني في المنطقة العربية برمتها. إذ أشرفت أجهزة “KJB” السوفيتية على تكوين الأمن في السيطرة على المجتمع، وقد كانت له المرتكزات نفسها في إحكام القبضة الأمنية بعقلية مخابراتية قلّ نظيرها في الأنظمة التي بشرت بالاشتراكية. ذكر لي زملاء الدرب ممّن درسوا في سوريا كيف يتندّر الناس بنكتة ملك الموت الذي نزل يحاسب أحد الأموات في ليلته الأولى من القبر وسأله السؤال التقليدي من ربك ؟ ارتبك الميت رغم أنه كان من الأتقياء فقال : “ربي هو حافظ الأسد”، فردّ عليه ملك الموت : “كيف تجرؤ على قول هذا وقد كنت تقيّا”، فماذا يقول العصاة ؟ فاطمأن الميت وردّ : “اُعذرني فقد ظننتك من المخابرات”. تعكس هذه كيف كان ملك الموت أهون لدى الناس من الشرطة السرية التي درّبها “بيرْيا” رئيس الشرطة السريّة في بولونيا و”سْتازي” في ألمانيا الشّرقية ورؤساء البوليس السّياسي في أوروبا الشّرقية الذين أطاحت بهم شعوبهم ودكّت عروش الوعد الشيوعي الذي صار من الذّكريات المرعبة في أوروبا ولم تعد في ذاكرة الشعوب من الشيوعية غير القتل والدمار والمذابح وطوابير الناس الذين يصطفّون من أجل المواد الأساسية وغيرها.
ويذكر الكاتب الشهير” زْبينْجو بْريجنسكي” في كتابه “الفشل الكبير ميلاد وموت الشيوعية في القرن العشرين” في الفصل الثاني بعنوان الكارثة الستالينية : “لقد كانت السلطة المطلقة للحياة والموت دون أية مبالغة في الاتحاد السوفيتي بأيدي زمرة صغيرة من المتآمرين وعديمي الرحمة والذي كان تنفيذ عقوبة الموت بالآلاف لا تحصى مما يسمى بأعداء الشعب بالنسبة إليهم عملا بيروقراطيا صغيرا وتافها، ولقد صرّحت مجلة موسكو المنشقة “غْلاسْنوسْت” في سبتمبر1987 أن جهاز المخابرات الروسية “KJB” كان يتلف ملف الضحايا من عام 1930 إلى عام 1940 بمعدل خمسة آلاف ملف كل شهر، لقد كانت الإبادة وبالإعدام الفوري أو الموت البطيء مصير كلّ فئات الشعب مثل المعارضين السياسيين والإيديولوجيين وأعضاء الحزب المشبوهين وضباط الجيش المتهمين والمزارعين الأغنياء والمجموعات العلمانية والتي وصفت بالمعادية والمبشرين الدينين وكذلك المؤمنين النشطين، وقد كان ستالين المسؤول عن المجاعة الجماعية لعدّة ملايين من الفلاحين الأوكرانيين التي حدثت في أوائل الثلاثينات، لقد اختفى في عهده الملايين، ويضيف في الصفحة 40 من الكتاب “وملخّص القول أن ستالين كان أكبر قاتل جماعي في التاريخ البشري، وإحصائيا فقد تفوق على هتلر”.ذكر مقال ورد في صحيفة جيش الشعب في مقال بتاريخ 25/ 4 / 1967 ” فنيت أمّة العرب بالإله ، فتّشت عن القيم القديمة في الإسلام والمسيحية، استعانت بالنظام الرأسمالي والإقطاعي و بعض النظم المعروفة في العصور الوسطى، كل ذلك فلم يجد فتيلا… والطريق الوحيد لتشييد حضارة العرب وبناء المجتمع العربي هي خلق الإنسان الاشتراكي الجديد الذي يؤمن أن الله والأديان والإقطاع والرأسمال والمتخمين وكل القيم التي سادت المجتمع السابق ليست إلاّ دمى محنطة في متحف التاريخ”. والمسؤول المباشر عن هذه المجلة هو حافظ الأسد وكان يشغل خطة وزير دفاع. وظلت حادثة اقتحام مسجد السلطان في حماة سنة 1964
مرتكزات النظام السّوري والسّوفييتي هي نفسها: الحزب والجيش والشّرطة السريّة والتّرويع للتركيع والخداع وأنصاف الحقائق التي تعد أخطر من الكذب ذاته. وحجم البطش هو ما يفسر تأخر بركان الغضب فيها، ولم يعرف تاريخ دولة الوطنية الحديثة مجزرة بحجم حماة، مدينة النّواعير السياحية، التي استحالت خرابا في طرفة عين . فالبقاء على قيد الوجود هاجس النظام السوري الذي وجد في القضية الفلسطينية والحركات الإسلامية المطاردة من الموساد شجرة يغطي بها عار الهزيمة في الجولان وشظف العيش في سوريا.
يسمح لك العالم ببعض التّدمير ولكنه لا يسمح لك بالإبادة، وتبقى للقوة حدود مهما بدت مطلقة العنان، ويبدو اليوم الرئيس بشار رهينة قادة الجيش و”تجمع المصالح” الذي توغّل في الدم و النهب ولن يجد من يسدّ خلَّته في حال قبول بشار بحل “دبلوماسي” على الطريقة اليمنية، فقد أكّد القادة العسكريون المنشقّون سرقات الذهب والعملة الأجنبية من قبل طُغمة بشار، وهذا طبيعي في دولة صنفت في المرتبة 150 في مؤشر الشفافية العالمية و152 في مؤشر الديمقراطية، وهذا الجنون الدموي لن يتوقف حتى يهلك أحد الفريقين، ولعلّ عبارة “أتحداك وأتحدى من خلقك” التي قالها أحد أنصار النظام في مناظرة تلفزيونية ضدّ أحد محاوريه تعكس حجم الجرأة على المقدس والغطرسة البشرية والعفن الإيديولوجي وتحدي الغيب والتطاول على قدرته ويبيّن عقيدة النظام المرتكزة على الفلسفة المادية في رؤيته للكون والصراع متجردا من العقيدة، وكل نظام لا يعني بأي شكل من أشكال الوحي في تفكيره يكون العنف ثابتا من ثوابته. يشحن النظام اليوم صور تشويه الجثث التي تغذي الصراع الأهلي وتوجه الأمور إلى النهج الخطأ وكان ذلك بأمر من دهاقنة الفتنة وسَدَنَة الصّنم حتى تنهض فوضى خلّاقة على طريقة النظام وينخرط في مشروع الغرب التجزيئي لإحداث انقسامات عمودية داخل المجتمع على أساس عشائري وطائفي.
مازالت القوى الغربية تتحدث عن محاولة لتجنب الحرب الأهلية وكأنها لم تندلع أصلا ويبدو التباطؤ الغربي مشابها للتباطؤ الذي وقع في في البوسنة و ليبيا و حين كانت كتائب ألقذافي تقصف مُصراته لمدة أيام دون تدخل من الناتو لردعها. شدّدت موسكو على حقّها في تزويد النظام السوري بأسلحة وهي حليفتها منذ الحقبة السوفيتية وأحد أبرز مشتري المعدات العسكرية الروسية، في وقت أصبح فيه امر المذابح ثقيلا على الأخلاقية الغربية والروسية خصوصا، بينما تبدي أمريكا معارضتها بتسليم أسلحة للمعارضين بضغط إسرائيلي. يبدو النظام إلى زوال بمنطق التاريخ مهما تَمتْرس بالأسلحة فالأرض التي تُروّى بدماء الشهداء يعسُر على الطغاة حكمها و”مثل هذه الأنظمة مصيرها الزوال، إن لم يكن غدا، في المستقبل التاريخي المنظور” على حدّ قول السيناتور الروسي “مارغيلوف”. ينحو الغرب نحو ترميم ديمقراطي في دهاليز السياسة الأمريكية والغربية ومعهم وجهة النظر الإسرائيلية أيضا، وهي أن تبقى البلاد في حالة تأزم سياسي داخلي دون حلّ ديمقراطي لأن إرادة الشعب السوري يعني بالضرورة الوصول إلى نظام ديمقراطي حقيقي وتشديد الخناق على إسرائيل التي طالما سوّقت للنظام كمؤتمن على المشرق العربي وأخرجته في لبوس الممانعة وهي تدرك دوره في حمايتها. مازلت أذكر ما قاله عملاق العصر الروسي ألكسندر سلجنستين، الذي قضى سنوات في سجن القولاق المرعب في عهد ستالين، حينما زاره الرئيس الروسي “بوتين” في بيته سنة 2007 “كل ما يقع في العالم من مآسي وجرائم هو بسبب نسيان وجود الله”.
سليم الحكيمي