تتعالى الأصوات من كل حدب وندب مطالبة بالتشغيل. الشباب يصيح ويلحيا حكومة نريد أن نعمل، نريد شغل، منظمات المجتمع المدني، الأحزاب السياسية لم تتخلف هي أيضا على النداء والتحقت بركب الصائحين. سبعمائة ألف عاطل عن العمل أو أكثر لابدّ من تشغيلهم، أصحاب الشهادات العليا لابدّ من توظيفهم في نفس الوقت، في الوظيفة العمومية وفي مؤسسات التدريس وحينها نكون قد قضينا على البطالة بهذه السهولة العجيبة التي لم تسبقنا إليها حتى الدول المتطورة اقتصاديّا.
لكن مكان من سنزجّ بهذه القوى العاملة ؟ هل نطرد العاملين من وظائفهم أو نفرض عليهم التقاعد المبكر لتحل مكانهم القوى الجديدة؟ ومن يقبل بهذا الحل؟ على مدار السنتين لم نسمع غير نفس الخطاب: على الدولة أن توجد عملا لكل عاطل. لكن هناك كلام لا بدّ أن نتوجه به ليس لهذه الحكومة فقط وإنما لجميع الحكومات القادمة : أن هناك حقائق من الواجب الافصاح عنها دون الخوف ودون الاعتبارات السياسية. وما نراه الآن أنّ هناك كلام لا تريد الحكومة أن تقوله كما أن المعارضة تردّد نفس الوعود الذي تعرف أنه مستحيل تحقيقها.
في بداية الاستقلال مررنا بنفس الفترة التي نمرّبها الآن، غير أنّ الظروف الاقتصادية لهذه المرحلة أحسن بكثير من الظروف السابقة. في الماضي كان الشعب معطاءً.فكان الجوع يفتك بغالبية الشعب غير أنّ الأنفس كانت كبيرة. وعندما كان الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة يخطب في الجموع وينادي بالتضحية ولا بدّ من «كبس السبتة» بمعنى الرضا بالتقشف، كان الشعب يصدقه ويهبّ هبّة رجل واحد مبكّرا قبل طلوع الفجر متوجها كل إلى عمله وإن كان عائده قليل. وبتلك الرجال أصبحت تونس اليوم هكذا، قبل أن تتبدل الأنفس وتخترقها الأهواء وتسودها الأطماع.
إن التشغيل هو مسؤولية الدولة وكذلك هو مسؤولية المجتمع بأفراده ومؤسساته. مسؤولية الدولة تتمثل في انتداب العدد المخول توظيفه في المؤسسات العمومية لتقديم الخدمات التي تعود للشأن العام، إدارية كانت أو تعليمية أو إستشفائية وغيرها، وغير مقبول أن تكدّس الدولة طالبي الشغل في القطاع العمومي لمجرد أن تمتص البطالة. فهذه العملية تعتبر من معطلات النمو الاقتصادي للدولة. ومن الحقائق العلمية أن تضخم الانفاق العمومي يساهم في الركود الإقتصادي. وكمثال فإن البنك الدولي يشترط التخفيض في الانفاق العمومي لكي يوافق على تقديم قرضا لدولة ما. وهذا ما قامت به الدولة التونسية في ثمانينات القرن الماضي. وكانت تونس التلميذ النجيب لهذا البنك بل فاتت كل التوقعات ففرّطت في مؤسسات وطنية ذات مردود عال واستراتيجي للمستقبل، ما كان لها أن تفرّط فيها.
من مسؤولية الدولة كذلك أن تركّز منوالا جديدا للتنمية يختلف عن طرق العهد السابق الذي يكتسي طابعا تحفظيا وهو ما يسمى بالنظام الاقتصادي المحمي، وقد أرادت في السبعينيات من القرن الماضي جعله منفتحا على الاستثمار الخارجي فسمحت للمستثمر الأجنبي بالنشاط في البلاد تحت شروط محّددة وتعود بفائدة محدودة أيضا على الناتج الوطني. كل هذه العوامل وإن قدمت حلولا ظرفية لزمن ما فقد أنتجت تراكمات من الظلم الاجتماعي وتفشي ظاهرة الرشاوي بغياب الشفافية وبروز مافيا الإبتزازوالمحسوبية.
أما مسؤولية الأفراد والمجتمع المدني هو أن يعلم أن ازدهار البلاد وتطورها الاقتصادي منوط بإدراكه أن السفينة تحمل الجميع، لذلك عليه وضع اليد في الجيب كما يقول المثل، ليس للوقوف موقف المتفرج وإنما لسحب الأموال واستثمارها في المشاريع التي تعود عليه بالربح من ناحية وتشارك في تشغيل اليد العاملة المتوفرة والتي يحسدنا عليها الآخرون.
وبعيدا عن المثاليات، فعندما أرى هذا الكم الهائل من المنتوجات الغذائية المصنعة تهرب إلى الشقيقة ليبيا، أتحسّر على عدم فهم الرسالة من طرف أصحاب الأموال التونسيين لبعث المصانع التصديرية لهذه المنتوجات وتخصيصهالأشقائنا في ليبيا كما تقتضيه الأعراف التجارية. وزيادة على ذلك فإن ليبيا هي امتدادا لتونس منذ التاريخ البعيد ونستطيع أن نأكل معا ونتعايش معا. انظروا إلى تركيا والبلدان الأخرى كيف هجموا على ليبيا بمنتوجاتهم واليد العاملة، بينما يتعلل الكثير منا بغياب الأمن.
رمضان الشريف الخالدي