لا يفتأ بعضُ مغامري السياسة وهواة الوطن يتحفوننا بما يثبت أنّ الثورة تسير باتجاه خلاصها من مختلف الآفات ما ظهر منها وما بطن.. عندما ينبري صوت الجبهة الشعبيّة المفوَّه الشاب العويني، يوم 4 ماي 2013 من مدينة بنزرت، يخطب في جموع لا يظهر منها غيرُ التصفيق فاعلم أنّ من فضل العناء طلب تقويم ما لا يستقيم.. لقد طمع الصبيّ في أن يركب الوطن قاطبة بفعل صرخة له علقت ببعض الأقنية.. أطلقها لمّا عرف بهروب المخلوع.. عندها انطلقت حبسته وأرخى العنان لحنجرته يخبر شعبا نسي النومَ بأنّ بن علي هرب ذات فجر قد تغشّاه الضباب.. ولولا ما كان من الفيديو الذي أسال مدامع بعض الذين أدمنهم الوجع لَمَا كان للفتى ذِكْرٌ على صحائف الوطن المنتفض.. ولكنّه أطلق صرخة جعلت له شأنا في زمن يصنعه الإعلام.. ويصنع بعضَ أوجهه الصارخُ.. بل لقد اختزل نضالات شعب بأكمله في صرخة فرجويّة جرت بين الوعي واللاّوعي.. وبينهما برزخ لا يبغيان…
حسب الفتى أنه بصوته الليليّ ذاك قد اكتسح القلوب والعقول وظنّ أنّه صار زعيما يقول فيُسمع لقوله.. ولمّا قنع بأن يكون مركبةً للوهم فقد عرض نفسه في سوق السياسة.. لعلّ.. وعسى.. تقدّم الفتى إلى الانتخابات.. واثق الخطوة يمشي.. ملَكًا.. وقد حسب أنّ الشعب لعبة بين أيدي اللاّهين والمضاربين.. قرأ درسا في مدرسته القديمة خلاصته أنّ الشعب غبيّ ذو وعي بقريّ.. ولقد عالج بدرسه ذاك بيتًا للشابيّ قرأه زمن طفولته الأولى:
أيّها الشّعبُ! أنتَ طفلٌ صغيرٌ، لاعبٌ بالتُّرابِ والليلُ مُغْسِ…
أساء الفتى القراءة وركبته عَجَلَةٌ لم يكلّف معها نفسَه قراءة بقية القول.. قول الشاعر الفذّ في الشعب:
أنتَ في الكَوْنِ قوَّة ٌ، لم تَسُسْها فكرة، عبقريَّة ٌ، ذاتُ بأسِ.
لم يفهم الشابُّ الشعبَ كما فهمه الشاعرُ.. أغوته أضواء المنابر وأسكرته وسامةٌ له صنعتها الشاشةُ.. فسوّلت له نفسه الأمّارة بالقصور أن يتقدّم ولا بضاعة له.. قنع الفتى بصرخة الليل تلك له رصيدا.. ونسي أنه بعدُ قد استهلكها حتى أهلكها تحت غوايات الأضواء وخلّبِ الأماني.. وأذهب ما كان من بريقها الذي لم يدم.. سافر خلف صيحته إلى دولة قطر ليقبض ثمنها من عُملة الإمبريالية الأمريكيّة.. ولم يدر أنّه بما قبض قد باع آخر ما له من رصيد يمكن أن يبارز به في معتركات السياسة ومعارك الانتخاب.. لم يفهم الفتى ما قد جرى فأقبل على الانتخابات يخوضها وبه طمع مقيم.. خاض الانتخابات وليس بجعبته غيرُ صرخته اليتيمة المفرَغة.. فلم تسعفه البقايا.. رغم كثرة المتسلّلين إلى سقف الوطن بفعل قانون البقايا.. وفقد في الساحة خرقته الوحيدة التي ظلت تستر فاقته في سوق السياسة بعضَ حين.. خاب كلّ من طلب ثَمَنَيْنِ لبضاعة واحدة.. لقد طمع في أن يبيع صرخته مرتين: مرّة في سوق الإعلام القطريّ تحت أضواء الجزيرة الباهرة.. ومرّة في سوق الانتخاب الوطنيّ.. لم يرعو إذ نال من ريع قطر ثمّ سوّل له لسانه غير العقول أن يشتم يدا عمرت بطنه دولارات.. فتراكبت أخطاؤه.. وتراكمت سقطاته…
لقد تخيّلت وأنا أسمع خطبة الشابّ الغرانق ذي النعيم المفانق.. تخيّلتُ أن يمضيَ التاريخ في مكره فيساعد الجبهة الشعبية، التي صار الفتى صوتا لها ودليلا عليها، تخيّلت أن يساعد التاريخ الجبهة على الانتشار بين الناس ويوفّقها إلى إقناع الشعب بأطروحاتها.. تخيّلتُ أن يعود للشيوعية ألقُها القديم وينهض ستالين من غيبته.. ويستأنف الشيوعيون بعددهم وعتادهم معاركهم القديمة الجديدة ضدّ الرجعية والامبريالية والصهيونية وعملاء الأمريكان.. وضدّ الإقطاع والاستعمار والكمبرادور.. ويتصدّون باشتراكيتهم العلمية لتفكيك التحالف بين الرجعية والإمبريالية.. فكيف تُرى ستكون البلاد؟.. ما ذا لو عاد للمادّية الجدلية بريقها وللاشتراكية العلمية ألقها وقد نجت من تجاريب التحريف وراوغت منطق التخريف ونبَتْ عن تصاريف التزييف؟.. لا أشك في أن القوم سيعيدون إنتاج ما كان في قديم الزمان.. ما كان من قول لمن ترجموا عنهم ومِنْ عَمَلٍ.. ستنصب المشانق وتقطع الرقاب في الساحات العامّة.. وستُرفع لتشريع ذلك الشعارات القديمة لا حرية لأعداء الحرية.. وأخواتها.. تحصينُا للثورة الحمراء وحمايةً لِبُنَاتِها.. وستعود عناوين الدين أفيون الشعوب وينات عمّاتها.. من قبيل لا إله والحياة مادّة وغيرها من المبادئ التي ترى ثقافتنا العربية الإسلامية من بنات العصور السابقة…
في عداء الإسلام.. السياسيّ
الإسلام.. السياسيّ.. لقد كنّا سنحترم الخطيب الأعصم والمصفّقين له وعليه لو أنّهم كانوا أكثر جرأة وسمّوا الأشياء بأسمائها.. فهم يحبّون الإسلام ويكرهون السياسيّ.. أو لعلّهم يكرهون الإسلام السياسيّ.. يقبلون اللفظ مفردا ويردّونه مركَّبا.. ولسنا نعرف مواقفهم من الإسلامات الأخرى: الثقافيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ.. ولا ندري موقفهم من الإسلام الإسلاميّ.. ذلك أنّ الإسلام السياسي عندهم إنّما هو عنوان للنظام الفاشستيّ الذي لا يحترم حرية ولا يرى عقلا بل هو ظلام في ظلام.. أم تراهم ينسجون موقفهم على أساس مقولة ما لله لله وما لقيصر لقيصر.. فيقولون للشعب: أنت لك الإسلام أما نحن فلنا السياسيّ ولنا الثقافيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ ولنا غير ذلك ممّا لا يعنيك أمره.. لك المساجد ولنا مفاتيحها.. ولك أن تعبد ربّك ولكن ليس لك أن تستعين بسوانا.. فإياه اعبدْ وإيّانا استعنْ.. وكفى…
في حقيقة الصراع
الصراع ضدّ حركة النهضة، كما يراه الشابّ العويني المعتصم بجبهته، إنّما هو صراع وجود.. لاعتبارات عديدة منها أنّ الجبهة الشعبية التي يتحدّث باسمها هي الشعب ذاتُه وصفاتُه.. فهي والشعب روحان حلاّ جسدا.. أمّا حركة النهضة فهي حركة منبتّة عن هذا الشعب.. جاءت لتلعب دور الوكيل لإعادة إنتاج الاستعمار الجديد.. والصراع معها لا ينبغي أن يكون على قاعدة الديمقراطيّة.. والمطلوب من الجبهة حماية تونس من هذه الحركة المنبتّة ووتخليص التوانسة من ترهيب نظام حركة النهضة.. أمّا الانتخابات فلا تعدو أن تكون احتمالا من الاحتمالات كما يرى هو شخصيّا.. ولن يمرّوا…
ويمضي الفتى في هذيانه المسرف ليمتدّ بجبهته الشعبية، التي جمعت من كلّ لسن وأمّة، إلى مصر وليبيا والجزائر.. إي نعم الجزائر.. يستبق ثورة قد تقوم بها.. ألا يا جزائر فانتبهي من حركة النهضة وأخواتها من حركات الإصلام السياسيّ التي راحت تنقص الدولة الوطنية من أطرافها.. لأنّها لا تؤمن بالدولة الوطنيّة حسب وصفه…
ترى أبمثل هذا الهذيان المسرف نمضي قُدُمًا في تحقيق أهداف الثورة؟ أم ترى القوم فقدوا صوابَهم لمّا علموا بمصيرهم فراحوا يحرقون أخضر الوطن ويابسه بخطب لا سقوف لها تستعدي مختلف الدول علينا نسجا على منوال من مضوا يستصرخون ماما فرنسا لتقوم بدورها إزاء محمياتها القديمة؟
فهل رمتني الجبهة بدائها وانسلّت؟
نور الدين الغيلوفي