تعرف تونس ما بعد الثورة، زخمًا ثقافيا وفنيا أثر إيجابيا على المشهد الثقافي عمومًا وعلى النمط الموسيقي تحديدًا، حيث صرنا نرى تعدّدا لم نكن نعرفه من قبل، باستثناء بعض الحالات المعزولة والمحاولات المحتشمة، حيث أننا اليوم مثلا نسمع يوميا موسيقى الراب أو موسيقى السلام أو الأغاني الملتزمة، وكلهم يُضافون إلى ما عرف من نمطية في الشكل والمضمون قبل ثورة 14 جانفي، حيث كان المشهد الموسيقي يقتصر على نمط رتيب من أصناف الموسيقى التجارية.
وفي هذا الإطار، منذ ما يقارب العامين، تأسست شركة “الربيع للفنون”، حتى تتعهد بإقامة حفلات في المهرجانات والتظاهرات الفنية والثقافية الكبرى، تقوم أساسًا على الإنشاد الديني الطربي والأهازيج الروحانية والأغاني الملتزمة وكذلك أغاني الأطفال.
السيد نور الدين بن نصر، مؤسس “الربيع للفنون” أو “سبرينغ آرت” (التسمية الأنقليزية للشركة كما يرد في موقعها الرسمي وصفحتها على الفايسبوك)، أكد للـ”فجر” أن الاختيار لم يكن اعتباطيا أو تجاريا أو محض صدفة. وإنما هو اختيار يقوم على عاملين أساسيين: أولهما أن الساحة الفنية والموسيقية في تونس طالما افتقرت إلى هذه الأجناس من الموسيقى الملتزمة. ومن ناحية ثانية، أشار بن نصر إلى غرامه القديم بالإنشاد. حيث أنه كان، منذ طفولته، منشدًا هو نفسه، كما أنه غنّى في فرق “السُلاميّة” التونسية، المعروف عنها أناشيدها الدينية والصوفية والتغني بالروحانيات والمديح.
نور الدين بن نصر، وأثناء انتقاله للعيش في روما، لم يبتعد عن الموسيقى، وعن الإنشاد تحديدًا، حيث خاض غمار تجربة ناجحة في أوروبا قاد خلالها مجموعة للإنشاد وشارك في مهرجانات كثيرة صحبة منشدين من الطراز العالي من كافة أنحاء الوطن العربي، ممّن أقاموا الحفلات في أرجاء أوروبا وعرّفوا بالإنشاد الديني كجنس موسيقي خاص، طربي وذو حظوة عند متلقيه ومستمعيه تمسّ كيانهم مباشرة وتستقر في أذهانهم.
الإنشاد.. لماذا؟
من أهم الخصائص الطربية هذا النوع من الموسيقى أنه يقوم على الأنشودة، وهي في مفهومها الفني والموسيقي ترتكز على الطاقات الصوتية لمنشديها بأقل ما يمكن من الآلات الموسيقية، حيث أن الصوت الإنشادي والخانات الصوتية والتغني يقومون مقام الإيقاعات والأوتار.
ولعل اختيار هذا الصنف بالذات يعود إلى افتقار الساحة لحفلات الإنشاد الديني والفن الملتزم والطربي، رغم غناها وخصبها بالطاقات الشابة والمنشدين الأكفاء، الذين أكد محدثنا في مناسبات عديدة أن أفضل المنشدين من العالم العربي دائمًا ما يبدون تعجّبهم وإعجابهم بالأصوات والقدرات الموسيقية والغنائية لهؤلاء، معربين عن سعادتهم واستعدادهم الدائم للعمل والتعامل معهم مجددا.
كما أكد بن نصر أن الحفلات الثلاث الأخيرة التي تعهدت وسهرت على إقامتها “الربيع للفنون” بتونس وسوسة وصفاقس أيام 18 و19 و20 ماي الماضين، لاقت نجاحًا باهرًا وحضورا جماهيريا باهرا تميّز هو نفسه بالثراء والتعدد والتنوع من حيث الكم والنوع والجنس والفئات الاجتماعية المختلفة. مشيرًا في ذات السياق إلى أن هذا النوع من الاحتفال يجلب اهتمام الجميع ويخاطب وجدان التونسيين في أصالتهم وروحهم وهويتهم، كما أنه يكشف مدى التقارب والالتقاء في الموروثات العربية بين المشرق والمغرب رغم التباين والاختلاف الظاهر فيها، حيث أن الموسيقى العربية، حسب تقديره، هي موسيقى طربية بالأساس، وأن الإنشاد هو أصل الطرب القائم على الصوت وطاقته وقدرته على مخاطبة عقول الناس وقلوبهم.