إن جمع المعلومات وتوزيع الوعود شيئان مهمّان لتسوية الوضعيات لكن الأهم هو الاندراج في الفعل والممارسة والتنفيذ حتى لا تتحوّل وزارتنا إلى مصبّ للمعلومات عوض أن تكون محطّة إقلاع للمظلومين والمضطهدين ليرمّموا بقية مشوار حياتهم وحياة أبنائهم، شخصّيا أخجل أمام مشهد امرأة توفي زوجها مشدودا بالأغلال تحت التعذيب وهي مصابة بعدّة أمراض مزمنة ومع ذلك تضطرّ لإعداد شيء من الخبز لتبيعه على قارعة الطريق لترتزق رفقة ابنتها الوحيدة التي لا تعرف والدها الذي استشهد وتركها رضيعة وهي الآن في العقد الثالث من عمرها، هذه المرأة لمّا شاهدت سيارة لوحدات التدخّل سنة 2012 ارتجفت وبادرت بالاختفاء لو أن مرافقها هدّأ من روعها وطمأنها، مازال عقلها مسكونا بشبح المطاردة والتتبّع، لم تسمع بالثورة لأنها لم تر أثر نعمها عليها، ومازالت تعيش البؤس والشقاء، بكم سنبيع رطل الرّوح الطاهرة لهذا الشّهيد الأخضر، أليست الرّوح من أمر ربّنا، وكيف سنصلح حال هذه المرأة وأمثالها ، إنها أمانة في أعناق كافة المسؤولين : حكومة ومعارضة و”أعوان” المجلس التأسيسي، أم أنّ الحكومة ستبقى متفرغة لمواجهة “الفتوحات النقابية” و”الغزوات العمّالية” و”تناطح الثيران”، خاصّة وأن الجشع أصبح عملة رائجة ما إن يخمد في مؤسسة إلا ويشتعل في أخرى كلعبة القطّ والفأر، في حين أن العائدين من رجالات التعليم مثلا مازالوا يتقاضون مرتبات سنة 1991، كأنهم من أهل الكهف أو أن الثورة أرجعتهم إلى المربع الأوّل في إطار احترام نظرية النشوء والارتقاء.
إن النضال ليس سلعا نقايضها أو تجارة نمارسها هو مبدأ وقناعة لكن من البديهي أن الحياة ليست كلّها عجافا وإلا تحوّلت إلى جفاف مستمر وقحط دائم، فليس بعد العسر إلا اليسر، وبعد الخوف إلا الأمن، وبعد الضعف إلا القوّة، وبعد الشدّة إلا الرّخاء، هذه نواميس التاريخ والشعوب والحضارات.
إن النظرة العلويّة أو الضيّقة للجانب الاجتماعي للمستضعفين عامّة والمتضرّرين خاصّة لا تساهم في تجاوز المشكلة بل تزرع الكره والحقد في النّفوس، ويظنّون بأن قادتهم قد تخلّوا عنهم واشرأبت أعناقهم نحو المناصب والمهام ونسوا قواعدهم، لذلك يجب على حكومتنا أن تتّخذ قرارات جريئة في الملفّات الرّاكدة حتى يسجّل لها التّاريخ بأنها أوّل حكومة منتخبة وأوّل حكومة أوفت بحقوق المظلومين والمقهورين. إن الإحساس بالغبن الذي أصبح يسيطر على فئة كبيرة من النّاس لا نتجاوزه بحسن النوايا ومفاوضات السلام والقمم المشتركة بل لا بدّ أن نكيل للناس حقوقهم حتى يشعروا بأن الثّورة مرّت من هنا وإن نسيمها شمل كافة الأطياف وإلا سيعتبرون أنفسهم دروع معركة انتخابيّة وأعشاب ملاعب سياسيّة.
لقد قدّمت حركة النهضة “تنازلات مؤلمة” لفائدة شركائها وخصومها للدّفع بالعجلة السياسية وإزالة العراقيل أمام المسار الديمقراطي ولو على حساب استحقاقاتها الانتخابية، لكن في المقابل لم تردّ الأطراف الأخرى الخدمة بالخدمة والجود بالجود والكرم بالكرم والحسنة بعشرة أمثالها، بل مازال لها نفسٌ للرّضاعة والامتصاص إذا اقتضت الضّرورة، ممّا جعل ملف العفو العام يبقى جاثما على صدر الحكومة والنهضة على حدّ السواء فأصبحت هي الخصم والحكم، هي الجلاّد والضحيّة،هي الطّالبة والمطلوبة، خاصّة وأن أغلب الضّحايا الأحياء من أبنائها بالرّغم من أن العفو العام مطلب وطني تمّ الاتفاق عليه قبل أن تولد النهضة كحزب سياسي وهو يشمل كافّة الضحايا التونسيين.
من المؤسف أن تتحوّل حقوق الإنسان إلى فساتين أفراح وعرائس نرتديها في صالة التأسيسي وخلال المناسبات الوطنيّة والنّدوات الصحفيّة والجلسات التلفزيّة في حين إن حقوق الإنسان هي مبدأ وصيرورة وممارسة تسكن في عروق كلّ ممثل للشعب مهما كانت مرجعيته وخلفيته الفكريّة ومهما كان الطّرف المستفيد بدون عنصريّة أو تمييز.
إن على حركة النهضة أن تبادر إلى وضع حدّ لـ “بؤر التوتّر” في صفوفها بسبب موضوع العفو العام، خاصّة وأن هؤلاء الضحايا هم الذين ساقوها إلى سدّة الحكم، وهم جواز سفرها في المحطّات السيّاسية القادمة، وإن لم تفعل ذلك فسوف لن يبقى لها سوى شرف المساهمة في صياغة الدستور وتسليمه للغير الذي قد يحترمه وقد ينسفه، كما لا نستغرب أن يقوم بعض المغامرين في اطار المزايدات السياسيّة باختراق هذه الفئة مستغلا هذه الثغرة ليتحوّل الى مناصر ومدافع على هؤلاء الضحايا خدمة لأهدافه السياسيّة ، كما انتبهت بعض الجهات الآن بأن لديها مصابين في سليانة وستتكرّم بمعالجتهم مجانا ممّا جعل رائحة التّجارة بالدّماء تمتدّ من سهول ومرتفعات سليانة إلى ضيعات البرتقال بنابل وقد تتوسّع.
إن موضوع “العفو العام” مكسب وطني ضحّى من أجله المناضلون منذ عدّة عقود لذلك فإن التفريط فيه أونسيانه أو تجميده أو التهاون في حقّه هو غبن لأجدادنا وآبائنا وخسارة لأبنائنا وحاضرنا وثورتنا، هو شارة نصر: هو أوّل مولود للثّورة ، فليس من الشّرف ألاّ نُكرمه ، فليأخذ كلّ ذي حقّ حقّه مهما كان ولاءه ومهما كانت درجة عطائه، وهذا ليس بعزيز على إرادة شعبنا وقواه الوطنيّة المناضلة والصّادقة بمختلف مشاربها السياسيّة وعائلاتها الفكريّة وجمعياتها المدنيّة، أمّا من أراد التنازل عن حقه في التمتّع بالعفو العام فهو مشكور مرّتين: مرّة لنضاله وأخرى لسموّ روحه إذا كان يؤمن بالرّوح.
البشير لسيود، ماجستير فلسفة
فقد بصره بعد تعرضه لاعتداء من أمني: محكمة الاستئناف بالقيروان تؤكد إيقاف التلميذ بتهمة محاولة القتل
قال رياض بن حليمة الناطق باسم محكمة الاستئناف بالقيروان اليوم الخميس 1 جوان 2023 على ما تم تداوله في مواقع...
قراءة المزيد