تحتفل حركة النهضة (الاتجاه الإسلامي سابقا) بالذكرى 32 لتأسيسها وهي تشارك لأول مرة في الحكم ووسط تحديات مختلفة بعضها داخلي وبعضها يهم بناء الدولة الجديدة على أسس ديمقراطية وبعد ثورة جاءت بالكثير من المطالب الشعبية الحارقة، والتي تتصدر اليوم النهضة المشهد لتحقيقها، وهو على الأقل ما ينتظره السواد الأعظم من الناس، وعلى أساس ذلك وقع انتخابها باغلبية واضحة في أول انتخابات شفافة في تاريخ تونس.
مرت حركة النهضة بالعديد من المراحل كان معظمها في السرية والسجون وخبر قادتها كما مناضلوها طرق النضال المختلفة، كما دفعت ضريبة كبيرة من دماء أبنائها ( أكثر من 100 شهيد) وآلاف السجناء والمشردين والمرضى، كما شاركت في كل المحطات التاريخية المهمة التي عاشتها بلادنا في عهدي بورقيبة وبن علي، واليوم تجد الحركة نفسها في تحدّ من نوع آخر البعض يعتبره الأخطر وهو الحكم وما يلقيه من مسؤولية جسيمة على هذه الحركة التي كانت خارج دوائر القرار بالكامل، فإذا بها تتصدر المشهد، وهو ما يطرح بالضرورة تجديدا في أسلوب عملها، وفي حوارها مع الفرقاء السياسيين وفي بناء علاقات خارجية قوية على أسس تدعم استقلالية القرار الوطني وتجلب الاستثمار لبلاد انهكها الفساد والاستبداد.
مسؤولية الحكم التي وجدت فيها النهضة نفسها ليست سهلة، ولكن النهضة اختارت أن تتحملها، بشجاعة، لأنها الأقدر ربما من كل القوى السياسية الموجودة ولأن الناس أعطوا ثقتهم في هذه الحركة التي لا يستطيع حتى أعداؤها ان ينكروا تضحياتها ونضالها ونظافة يد رجالها. ولكن مسؤولية الحكم فيها الكثير من التحديات الجديدة التي ربما تحتاج فيها الحركة الى وقت وجهد مضاعف مع شركائها لتجاوز هذه المرحلة الانتقالية والمصيرية في تاريخنا المعاصر.
ورغم تشكيك البعض من المنافسين الايديولوجيين في قدرة الحركة على إدارة المرحلة الجديدة فإن الكثير من المنصفين يشهدون لها ولقيادتها بالكثير من الحكمة والعقلانية التي ظهرت أساسا في:
– اختيار التحالف مع أحزاب علمانية معتدلة في ما أصبح يعرف بالترويكا ورغم ما في هذه التجربة من عنت وجهد وصبر فإنها تعتبر تجربة فريدة من نوعها في العالم العربي والاسلامي وتبشر بمجتمع سياسي متعايش يقبل الرأي والرأي الآخر على أسس ديمقراطية سليمة وثابتة البناء.
– إدارة المعركة السياسية في المجلس وخلال الحوار الوطني وفي مواجهة الثورة المضادة بكثير من العقلانية وتغليب المصلحة الوطنية مما جعل الحركة تتنازل في الكثير من الأحيان عن مطالب رئيسية لقواعدها ولمؤسساتها، مثل قبولها بالفصل الأول من الدستور والتنازل عن النظام البرلماني ووزارات السيادة وغيرها.
– الصبر على أذى أبناء البلد الذين يقصفون النهضة يوميا بل كل ساعة بالتهم الباطلة والشتائم والتحريض في وسائل الاعلام ومن خلال الخطب النارية، وهو وإن كان أمر في غاية السلبية كما يرى البعض إلا أنه بدأ يأتي بنتيجة عكسية لدى الرأي العام، فالطرف الذي يقع الهجوم عليه بهذه الضراوة والحدة والحقد لا يمكن إلا أن يكون على حق.
– نسج شبكة من العلاقات الدولية المهمة والاستراتيجية مع الشرق والغرب سواء في مستوى الحركة أو الدولة وهو ما تجلى في العالم العربي من خلال زيارات المسؤولين الى الجزائر وليبيا وقطر ومصر وغيرها ومع الدول الغربية ومنها تركيا وألمانيا وأمريكا وكندا والصين واليابان والهند وغيرها، وهو ما عزز صورة تونس التي اكتسبتها من خلال الثورة وجعل الكثير من القوى الدولية تتطلع اليها كتجربة مهمة وفريدة من نوعها في المنطقة.
– الانطلاق في بناء مؤسسات ديمقراطية واعتماد الانتخاب والتصويت طريقا أساسيا في رسم السياسات والقرارات المهمة وهو ما تميزت به عن مختلف الأحزاب التي مازال بعضها لم يعقد حتى مؤتمره التأسيسي. وهي في هذا ترسم طريقا طويلا من البناء الداخلي الذي يبقى في حاجة الى مزيد المأسسة والحوار، وخاصة في محور الفصل بين الحركة والحزب الذي رُحّل الى المؤتمر القادم.
– اصرار الحركة على منهج الحوار والمزيد منه خلال كل الهزات التي شهدتها البلاد بعد الثورة، وحرصها الكبير على الوفاق الوطني طريقا لانجاز الدستور ومؤسسات الدولة وتحقيق الانتقال الديمقراطي، وهو أمر فهمه البعض ضعفا، ولكنه في الحقيقة تنازل القوي والحريص على النجاح.
ورغم هذه النجاحات التي لا ينكرها إلا مكابر فإن أمام النهضة اليوم تحديات كثيرة بعضها داخلي لن يقع حلّه مع القواعد الواسعة القديمة والجديدة إلا بمزيد من الحوار والتشاور، والآخر مع شركائها في الوطن والذي يتطلب أيضا التمسك بالحوار وبالقانون مع حزم الدولة وارساء هيبتها التي تعتبر أحد المطالب الشعبية الرئيسية في هذه المرحلة.
محمد فوراتي