إثر الأحداث الأخيرة التي شهدها جبل الشعانبي من ولاية القصرين دقّت صحف ومنابر إعلامية طبول الحرب وأنذرت بمعارك لا هوادة فيها وحذّرت من أيام نحسات، وانطلقت حملات إعلامية سوداوية ترجمتها عناوين وأخبار جنائزية، توحي لمتتبعها بأن مدينة القصرين على حفير الهاوية، وبأن مستنقعا من الدماء مصيرها المحتوم، وبأنّ مستقبلا مظلما في انتظارها، وتنبّأت بحرب قادمة ودماء ستسفك في تونس، وبحرب أهلية على الأبواب.
ومع شحّ المعلومات الرسمية وضبابية المشهد الذي نراه يوميا في الشعانبي وما لفّ لفّه من قرى، ارتأت جريدة “الفجر” أن تستجلي حقيقة ما يحدث وتكون شاهدة على نسق الحياة في المنطقة، وتقترب من نبض أهالي الجهة بعيدا عن المزايدات وعن المتاجرة المقيتة بآلام الناس وآمالهم. قبلتنا كانت القرى المتاخمة لجبل الشعانبي مثل قرية “أولاد مسعود”، “أولاد نصر الله” و”العبايدية”.
نسق حياة عادي
عند زيارتنا قرى الشعانبي وحديثنا مع الأهالي، عشنا مفارقة عجيبة وانفصاما صارخا بين المشاهد كما توقعناها وكما ارتسمت في أذهاننا والمشاهد كما رأيناها على عين المكان، فكان أوّل ما استفزنا نسق الحياة العادي الذي يعيشه الأهالي هناك رغم ما شهدوه من أحداث وأصوات التفجيرات، ورغم التواجد الأمني، ورغم مشهد الدبابات وسيارات العسكر، مشاهد لم يألفها المواطن التونسي من قبل، ومع ذلك لم نجدهم في مخابئ، لم يسيطر عليهم الرعب، ولم يشلّ حركتهم ونشاطهم الخوف. يعيشون حياتهم العادية وبنسق طبيعي، يعملون في ضيعاتهم المتواضعة، ويرعون أغنامهم، أطفالهم يلعبون ويمرحون بكل براءة في الحقول والفيافي. “لا وجود لحالة من الخوف والرعب إلّا في أذهان البعيدين عن الشعانبي والغرباء عن الجهة، ولعلّ الألغام التي زرعها بعضهم من خلال تحليلاتهم التشاؤمية، والصور المفزعة كانت أشدّ فتكا من ألغام الشعانبي نجحت في زرع الرعب والخوف في النفوس.
لا نخاف الشعانبي
الشعانبي لا يخافنا ولا نخافه، هذا ما أكّده لنا السيد أحمد (مدرّس) الذي يقطن قرية العبايدية المتاخمة لجبل الشعانبي في مستهلّ حديثنا معه. كلام لم نفقهه حقيقة، حتّى لوّح بيده إلى محمد الطفل الذي كان يرعى الأغنام على بعد بضعة أمتار من الجبل، طفل عمره 12سنة، اقتربنا منه فوجدناه يمرح مع الخرفان وينشد لهم، ولمّا سألناه ألا تخاف الألغام أجابنا على استحياء وبابتسامة بريئة لا تعرف التكلف ولا الزيف: “أقطن قرب جبل الشعانبي ولا أخاف الألغام وأنا ألعب مع إخوتي ونرعى الأغنام ولا يخيفنا شيء، لكن الجيش يمنعنا من الصعود إلى الجبل كما كنا نفعل في السابق”.
وجود أطفال يلعبون وهم على بعد بضعة أمتار من جبل الشعانبي، ورجال يمضون الليل يتسامرون ويلعبون الورق في العراء، سفّه كلّ حساباتنا، ودحض الانطباعات التي جئنا محمّلين بها، وغيّر المشهد الذي ارتسم في أذهاننا.
خلّوا بيننا وبين الجبل
جبل الشعانبي بالنسبة إلى سكان تلك القرى الذين يكسبون رزقهم من النشاط الفلاحي وتربية الأغنام يمثل شريان حياة، فالأهالي يقصدونه إمّا لجمع الحطب أو لرعي الأغنام، ومع قسوة الطبيعة في تلك المناطق وشحّ المياه وكثرة الجدب، يصبح جبل الشعانبي المصدر الوحيد لرعي الأغنام. أبدى الأهالي امتعاضا شديدا بسبب منعهم من صعود الجبل من طرف قوات الجيش وكأنهم يمنعون عنهم الحياة. نسرين ودولة ومباركة من “أولاد مسعود” قابلناهن بالقرب من الجبل يرعين الأغنام قلن: “كنا نجمع الحطب من الجبل لكن بعد هذه الأحداث منعنا الجيش من الصعود إليه ولم نعد نجد من أين سنحتطب ولا كيف نعلف أغنامنا”.
وأضفن “أنتم ترون حالة الجدب بسبب شحّ المياه في منطقتنا ولا خيار لدينا سوى صعود الجبل وإلا فأغنامنا ستموت”. وفي السياق ذاته قال محسن من نفس القرية: نحن لا نخشى الإرهاب ولا الإرهابيين، نحن أبناء المنطقة وجبل الشعانبي يعرفنا ونعرفه.. ألفنا وألفناه.. نعرف خباياه وخبرنا مسالكه.. خلّوا بيننا وبينه، إن كان فيه إرهابيون فعلا فنحن أقدر على دحرهم وعلى كنسهم من مورد رزقنا، وإن لم يكن فاتركونا نعيش ونطعم مواشينا”.
منطقتنا عصيّة على اختراق الإرهابيين
عبّر أبناء الشعانبي وأهالي مدينة القصرين عموما عن استيائهم مما اعتبروه حملة تشويه ممنهجة ضدّهم بسبب ما روّجته بعض وسائل الإعلام من تلقي إرهابيين في جبل الشعانبي مساعدات وتمويلا من طرف بعض أهالي الجهة. وقد وجّه محمد الصالح العبايدي لوما شديدا إلى الذين يحاولون تشويه أبناء الشعانبي وتشويه بطولاتهم في ثورة 14 جانفي قائلا: “الذين جعلوا أجسادهم وقودا ألهبوا به فتيل الثورة المباركة التي دحرت الظلم والاستبداد من وطننا لا يمكنهم أن يقبلوا على أنفسهم أن يموّلوا إرهابيا يفسد في الأرض ويخرّب حياة الناس”. واستهجن محمد الصالح في ذات السياق سذاجة القول بأن الأهالي يموّلون الإرهابيين القابعين في الجبل، واعتبر هذا الكلام مجرّد خرافة؛ لأن الجميع في هذه القرى الصغيرة يعرف بعضهم بعضا، وإذا حاول أيا كان أن يموّل إرهابيين فالكلّ سيتنبه إليه، وسيحصل الشيء ذاته إذا دخل المنطقة غرباء. وأضاف محمد الصالح وهو صاحب المتجر الوحيد في المنطقة المتاخمة لجبل الشعانبي والأقرب إليه “هذه المنطقة هي منطقة مناضلة فكيف ستخون الوطن وتبيع ماضيها المشرّف.. نحن قمنا بثورة لكنس الظلم والاستبداد وليس لتمويل الإرهاب، وإن كان البعض يريد أن ينتقم من أهالي القصرين لأنهم أوقدوا الثورة وأعطوها زخما قويا علّنا نتحسّر على عهد المخلوع، فهيهات هيهات أن يحقّقوا مرادهم”.
“لا وجود للإرهابيين في الشعانبي”
أثار انتباهنا خلال زيارتنا منطقة الشعانبي أنّ النقطة التي التقى فيها أغلب من تحدثنا إليهم من أهالي قرى الشعانبي كانت استهجان فكرة وجود إرهابيين محتمين بالجبل، وتحدثوا عن مسرحية من إنتاج قوى الثورة المضادّة هدفها استنزاف طاقات جيشنا الوطني وإيهام الرأي العام بوجود إرهابيين وبأنّ مستقبلا مظلما بانتظار تونس وأنّ مستنقعا من الدماء مصيرها المحتوم، منذرين بحرب يرقصون على طبولها. وتساءل محمد الصالح العبيادي: “لو فرضنا أنّ الإرهابيين موجودون فعلا كيف يمكن أن يستمرّوا في الاختباء طوال هذا الوقت من دون طعام أو شراب لا سيما أن لا أحد من المنطقة يوفر لهم مؤونتهم؟”.
وتساءل العم عمر لماذا لم يضعوا فرضية أن تكون الآثار التي شوهدت تابعة لبعض الذين يحفرون عن الكنوز، وهي تقاليد منتشرة بكثرة في منطقة القصرين وخاصة في جبل الشعانبي؟” وأضاف: “ثمّ كيف يمكن أن يصعد أحد إلى الجبل وهو محمّل بمؤونة في ظلّ وجود حراسة أمنية مشدّدة ؟”.
ربّ ضارّة نافعة
اليوم الموالي وفي نهاية زيارتنا قرية أولاد نصر الله لفت انتباهنا امرأة في العقد السادس من عمرها ترعى أغنامها داخل المنطقة العسكرية المغلقة من الشعانبي، وكان يومنا قد أشرف على الغروب فأثار فضولنا وجودها في ذلك المكان وفي ذلك التوقيت دون خوف ولا خشيّة، اخترقنا المنطقة العسكرية المغلقة وسألناها من أين لها هذه الجرأة لترعى أغنامها في تلك المنطقة، ألا تخشى الألغام؟ تبين لنا أنّ الرجل الذي أصيب أربع من أغنامه بلغم هو ابن أخت زوجها، وأجابتنا قائلة “الخوف كان من السرّاق، اليوم الحمد لله لم يعد هناك ما نخشاه.. كنا في الماضي نقضي الليل قياما خشية من لصوص الأغنام ولكن اليوم بتنا ننام ملء جفوننا ونحن آمنين على أرزاقنا بسبب وجود الجنود حولنا”. ثمّ استدركت “نتمنى فقط لو يتركوننا نصعد الجبل كما كنا في السابق؛ نحتطب ونطعم شياهنا”.
نهاية الزيارة خبأت لنا مفاجأة فبينما نحن نتحدث إلى الحاجّة إذ التف من حولنا ثلاثة جنود وأشهروا أسلحتهم في وجوهنا وطلبوا منّا الاستظهار بهوياتنا الشخصية وقاموا بتفتيش السيارة تفتيشا دقيقا، وبعد التعرف على هوياتنا والتثبت من أسباب وجودنا في تلك المنطقة طلبوا منّا الابتعاد وملازمة اليقظة وعدم اختراق المنطقة العسكرية المغلقة لضمان سلامتنا.
الجبل.. والحلم بمنطقة سياحية
كان أهالي القرى المجاورة للشعانبي وأهالي مدينة القصرين عموما يمنّون النفس بانطلاق أشغال مشروع تحويل الجبل إلى منطقة سياحية كبرى تكون قبلة للسياحة الداخلية والخارجية. وهو مشروع تمت برمجته ولكنه تعطّل بسبب جشع الطرابلسية، ثمّ عاد الحلم بالمنطقة السياحية وبتوفير آلاف مواطن الشغل وبتحسين البنى التحتية بعد الثورة. ولكنّه سرعان ما تحوّل إلى كابوس، وبدل أن تكون منطقة الشعانبي منطقة سياحية أصبحت منطقة عسكرية محظورة.
بقطع النظر عمّا يخفيه جبل الشعانبي من طلاسم ومن أسرار وحدها الأيّام قادرة على فكّ رموزها، فإن ما خلصنا إليه إثر زيارتنا إلى منطقة الشعانبي وحديثنا إلى الأهالي هو صورة مغايرة تماما لتلك القاتمة التي ترسخت في أذهاننا كما في أذهان الكثيرين حول الوضع في القصرين، وأمسينا على بيّنة أنّ سكّان الشعانبي وجيرانه يعيشون حياتهم الطبيعية لا يربكهم خوف ولا يلجمهم رعب ولا يفسد حياتهم سوى منعهم من صعود الجبل كسابق عهدهم للاحتطاب والرعي، وأنّ الإرهاب الحقيقي الذي يعانيه أهالي القصرين هو إرهاب الفقر والخصاصة والتهميش والقحط وشحّ المياه وقلّة موارد العمل، وأنّ الذين كانوا فتيلا لثورة جاءت لتنصف الضعفاء والمحرومين، من حقّهم على الثورة أن تنصفهم.
تحقيق فائزة الناصر وجليلة فرج