كان الحدث الابرز على الساحة السياسية التونسية في هذا الاسبوع اعلان رئيس اركان الجيوش الثلاثة الفريق رشيد عمار لطلب اعفائه من مهامه بسبب “الحد العمري” على الهواء مباشرة مما اثار تساؤلات عديدة حول دوافع قراره و تداعياته على الساحة السياسية التونسية.
بداية لا بد من الإشارة إلى ان الأمر ليس استقالة بل هو رغبة في تفعيل تقاعد الفريق رشيد عمار الذي تم التمديد له منذ سنة 2006 التي بلغ فيها سن التقاعد كما ان القرار ليس وليد ظهوره في برنامج تلفزي بل كان قد ابلغ به رئيس الجمهورية و القائد الاعلى للقوات المسلحة التونسية منذ يوم السبت الفارط كما ان هذا القرار هو حق مشروع للجنرال الذي يريد ان ينعم بالراحة بعد سنين طويلة من العمل ادى فيها واجبه .
رد فعل أم تمهيد لدور سياسي جديد؟
تراوحت قراءات قرار الجنرال بين من يعتبره ردة فعل منه على حملات التشكيك التي طالت المؤسسة العسكرية على خلفية ما يجري في جبل الشعانبي والتي تقاطعت حولها الآراء بين من يعتبرها مسرحية لتوجيه الانتباه إلى عدو وهمي تواطأت فيها المؤسسة العسكرية مع الحكومة حتى تخف حدة الانتقادات الموجهة للفريق الحكومي العاجز حسب منتقديه عن تلبية مطالب الشعب وبين من اعتبر الجيش التونسي غير قادر على مواجهة مجموعة من الإرهابيين لا يمتلكون قوة يمكن أن ترهق اي جيش وان انتشارهم في الشعانبي ونجاحهم في زرع الألغام في مختلف مناطقه انما هو دليل عن فشل ذريع للجيش التونسي في صدّ هذا الخطر بل هنالك من السياسيين من طالب صراحة بإعفاء الفريق رشيد عمار من مهامه لضخ دماء جديدة في المؤسسة العسكرية قادرة على أن ترتقي بأدائها وان تمنحها النجاعة المطلوبة في مختلف تدخلاتها.
في المقابل يرى البعض أن القرار يعتبر تمهيدا من الجنرال للعب دور جديد في المشهد السياسي التونسي المقبل على الانتخابات الرئاسية بعد أشهر وبعد ان شعر الجنرال ان مهمته كمسؤول أول عن المؤسسة العسكرية انتهت بنجاح بعد أن ابعدها عن مختلف التجاذبات السياسية رغم سعي عديد الأطراف إلى اقحامها عنوة في تفاصيل المشهد السياسي المضطرب سواء بدعواتها المتكررة للجيش الى التدخل في الشأن السياسي أو من خلال السعي إلى إعادة السيناريو الجزائري في البلاد بزرع الفوضى والعنف وافشال جهود الدولة لاحلال السلم الاجتماعية والسياسية في البلاد ليتدخل الجيش لانقاذ ما تبقى من حطام الدولة. إلا ان المؤسسة العسكرية حافظت على حيادها والتزمت البقاء على نفس المسافة من كل الفرقاء السياسيين والآن يمكن القول ان تونس بدأت في تحسس طريقها نحو الاستقرار وانهاء حالة المؤقت لان الدستور سيطرح على التصويت في مفتتح الاسبوع المقبل واستكمال انشاء كل الهيئات التي ستشرف على الانتخابات والقضاء والاعلام جار بشكل واضح.
حملة اعلامية غامضة
انطلقت الكثير من وسائل الاعلام في التلميح والتصريح بأن هذه الاستقالة هي تمهيد لترشح الجنرال للرئاسة، رغم تأكيد رشيد عمار على حرص المؤسسة العسكرية على عدم ولوج عالم السياسية، وعدم التدخل في الشأن السياسي، كما أكد حرص الجيش على الشرعية وأن عهد الانقلابات ولى وانتهى. ورغم ذلك تابعت أصوات كثيرة السير في الدفع بالاستقالة الى تحميلها أكثر مما تحتمل بالرمي بورقة الترشح للرئاسة في محاولة لمزيد خلط الأوراق خاصة وأن الترشحات لهذا المنصب مازالت لحدّ الآن في منطقة التوقعات والتحاليل. كما حاول البعض تغييب زهد الرجل في المناصب السياسية فهو الذي رفض الرئاسة بعد الثورة وهو من رفض وزارة الدفاع أيضا، وهو أيضا من تحمل الكثير من الصبر على الكثير من الهزات التي حدثت بعد الثورة وساهم فيها بعض السياسيين للأسف.
والمهم في هذه النقطة هي الحساسية البالغة لدى التونسيين ولدى الشعوب العربية عموما من مسالة دخول العسكريين إلى مجال السياسة والمسؤولية السياسية، رغم الاحترام الكبير الذي يكنه الجميع للجنرال رشيد عمار وللدور الذي قام به الجيش خلال الثورة. فالديمقراطية الحقيقية هي التي تتنافس فيها الأحزاب والشخصيات الوطنية على البرامج والمناصب وهي الديمقراطية التي يقوم فيها الجيش كمؤسسة سيادة بحماية أمن البلاد وحماية الشرعية والعملية الديمقراطية نفسها. فالتاريخ العربي كان مليئا بتولى العسكريين السلطة ومنهم بن علي الذي كان عسكريا أساسا ولم يكن سياسيا وأيضا القذافي وحسني مبارك وغيرهم، فهل يمكن بعد الثورة أن نعود من جديد للحديث عن عسكري يقود بلدا قاد بثورة ضد عسكري؟ سؤال لا يبدو أن الدافعين الى هذا الخيار يهمهم كثيرا فهم يبحثون عن أب أو عن حضن يعوضهم عن فقدانهم للأب الحنون الهارب.
محاولة خلط الاوراق
قد يكون للفريق رشيد عمار الحق في التعبير عن غضبه مما يراه نقصا أو قلة امكانيات أو “طعنا في الظهر” بسبب بعض التصريحات أو الأخبار التي تتناقلها خاصة المواقع الاجتماعية، ولكنه يعرف جيدا أن للجيش مكانة خاصة في قلوب التونسيين وحبا خاصا لهذه المؤسسة التي هي الدرع والحامي للوطن ويجب ان تأخذ حظها كاملا في المرحلة القادمة اصلاحا وتمويلا، ولكن لا أحد من التونسيين يريد أن تدخل هذه المؤسسة التي هي ضمان النجاح للتجربة الديمقراطية في باب المزايدات السياسية والتنافس السياسي الذي يفقدها ربما شيئا من الهيبة والحيادية وهو أمر في غاية الخطورة.
إن الساحة السياسية والمشهد الحزبي بأخطائه وهناته يحتاج الى صفاء وتجربة تستوي مع الوقت لتكون لنا ديمقراطيتنا التونسية الخالصة ولكي تتحقق أهداف الثورة في اقامة دولة مدنية ديمقراطية تسود فيها الحريات والكرامة لكل التونسيين بدون الانزياح الى مغامرات غير محسوبة العواقب.
ياسين الصيد