جاء في جريدة الضمير ليوم الأحد 10 نوفمبر 2013، ما مفاده أن المتابعين لمجريات الأزمة السياسيّة في تونس لم ينفكوا يبحثون الأسباب الحقيقيّة الّتي دعت طيف من المعارضة، وتحديدا الجبهة الشعبيّة ونداء تونس ، إلى تعطيل الحوار الوطني والعمل لاحقا على منع استئنافه بالسرعة المطلوبة.
المتابعون يستغربون عناد هذا الطيف المُعارض في الرفض القطعي لتولّي الأستاذ أحمد المستيري رئاسة الحكومة على الرغم من أنّه كان الأفضل من ضمن أربعة أسماء بلغت المحطة الأخيرة من عمليات الغربلة والفرز، وعلى الرغم أيضاً من غياب مبرّرات فعليّة واضحة للرفض، بما جعل هذا الرفض مقصودا لغاية وحيدة وهي الدفع لإفشال الحوار الوطني لا غير.
رموز الجبهة الشعبيّة وحزب نداء تونس يتخبّطون الآن في ورطة تبرير فعلتهم التي وقف كلّ العالم شاهدا على تهافتها وافتقادها لأيّ جديّة أو وجاهة بقدر ما أنّها حرمت البلاد من تحقيق توافق تاريخي يُنهي الأزمة السياسيّة القائمة ويفتح الطريق سالكة لاستكمال مسيرة البناء الديمقراطي.
اسقاط عامل السن على مواصفات المرشّح لرئاسة الحكومة بصفة بعديّة وبعد أن استقرّت الأمور لفائدة أحمد المستيري أربك مسار الحوار وأوقع الرباعي الراعي للحوار في مأزق حقيقي انتهى الى الحل الحكيم في تعليق الجلسات خاصة بعد أن تمسّك حمّة الهمامي و”رفاقه” برفض مقترح الإدماج الذي تقدّم به شريكهم في جبهة الانقاذ الاستاذ أحمد نجيب الشابي كمخرج توافقي يُرضي حالة الاستقطاب التي دفعت إليها الجبهة بين المرشحين المستيري ومحمّد الناصر.
هيستيريا النواب المنسحبين
تعزّز ذلك الرفض القطعي للمستيري ومقترح الدمج بهيستيريا النواب المنسحبين / العائدين على خلفيّة التنقيحات التي تمّ إحداثها في النظام الداخلي للمجلس الوطني التأسيسي لتأمين السرعة المطلوبة في الاعمال التأسيسيّة وربح الوقت وتفادي التعطيل في تنفيذ خارطة الطريق وفرض الجديّة والانضباط ومنع الغيابات عن اجتماعات اللجان والجلسات العامّة ، وبذلك بدأت تتوضّح النوايا الحقيقيّة التي كانت ترمي اليها المعارضة من الحوار الوطني:
بكلّ المقاييس ووفق كلّ الاعتبارات واستنادا الى كلّ القراءات الموضوعيّة لم تكن الغاية أبدا الحرص على إيجاد مخرج للأزمة السياسيّة والا ما كانت المعارضة تعترض على شخصية في قيمة الاستاذ أحمد المستيري وترفض تنقيحات قانونيّة كانت تهدف الى تسريع كتابة الدستور وصياغة القانون الانتخابي وتركيز الهيئة الانتخابيّة.
فضحت المعارضة نفسها بنفسها وباتت تتقلّب بحثا عن تبريرات ولكنّها فشلت في تمرير ألاعيبها على الاطراف المشاركة في الحوار كما لم تنطل حيلها على الرباعي الراعي للحوار الذي تميّز أداؤه بالحياد والواقعيّة ورفض الانخراط في جوقة قطع أوصال الحوار وإعلان فشله.
إذن ماذا كانت تُريد الجبهة الشعبيّة ومن لفّ لفّها من الدخول للحوار الوطني؟ وماذا كانت أهدافها من خلال ما قامت به لتعطيل الحوار وإفشاله ؟.
دون إعادة نظر في خارطة الطريق وما تضمّنتها من نقاط استفهام وألغام وربّما حتّى نوايا غير بريئة ، فلقد اتّضح بالمكشوف اليوم أنّ الجبهة الشعبيّة والبعض من قيادات حزب نداء تونس (الشق اليساري الاستئصالي) لم يكن يعنيها من مبادرة الرباعيّة سوى الحصول على استقالة الحكومة والسعي لتنصيب حكومة موالية ولم تكن بقية المسارات والاستحقاقات تعنيها في شيء، وإلاّ على أيّ أساس قدّمت الجبهة المختار الطريفي كمرشح لرئاسة الحكومة وهو المعروف بعدم حياديّته وبتبعيته الفكريّة والايديولوجيّة والسياسيّة للعائلة اليساريّة ؟ ، وأيضاً كيف تسمحُ الجبهة لنفسها بدعم ترشح أسماء أخرى حولها أكثر من شُبهة على غرار مصطفي كمال النابلي المحسوب على حكومة الظل والدولة العميقة التي تستهدف الثورة والمسار الانتقالي ناهيك على أنّه أحد رجالات البنك الدولي ومن صنيعة المنظومة الليبراليّة الغربيّة التي تتعارض كلّيا مع الطروحات الاشتراكيّة التي هي أساس البناء الجبهوي؟!.
ارتباك وبحث عن مبررات
ارتبك الرفاق وأيقنوا أنّ الحوار قادهم في النهاية إلى ورطة حقيقيّة ومأزق سياسي وأخلاقي عنيف جدّا وأكسب خصومهم ثباتا وجدية وحرصا لا غبار عليها بتغليب المصلحة الوطنيّة على حساب المغانم الحزبيّة ، فطفقوا سبّا وثلبا وتجريحا في المرشح أحمد المستيري الأقرب الى الطرح الاشتراكي منه الى الطرح الاسلامي الذي تتبنّاه حركة النهضة والأكثر التزاما بالفكر الديمقراطي وبالدولة المدنيّة، ولجأوا من جديد الى التلويح بتعطيل أعمال المجلس التأسيسي، هذا مع استعادة الأسطوانة القديمة في نعت النهضة بالتغوّل والهيمنة على مفاصل الدولة وتحضير الأجواء لتزييف الانتخابات القادمة والبقاء في السلطة ومن أطرف ما قيل في هذا الصدد ما صرّح به زعيم الجبهة الشعبيّة حمّة الهمامي من أنّ المستيري هو الضامن لعودة النهضة للحكم ولو بتزييف الانتخابات وتزوير نتائجها!!.
المخطّط كان جليّا في الدفع لافتكاك مركز السلطة التنفيذيّة (الحكومة) أوّلا وباعتماد كلّ أساليب الضغط والابتزاز وترويج الإشاعات ولاحقا بالنكوص عن تعهدات الأعمال التأسيسيّة وتعطيل المسار الانتخابي بالإتكاء على اجتهادات المحكمة الاداريّة وعكاز الرفيق أحمد صواب والقاضية كلثوم كنّو والحقوقي مختار الطريفي، ثمّ المرور إلى استهداف الرئيسين المرزوقي وبن جعفر انتهاء الى تنفيذ أجندة تخريب المسار الانتقالي والانفصال عنه لفائدة سلطة جديدة تكون الشرعيّة الانتخابية والانتقال السلمي لمؤسسات الحكم الدائمة من آخر اهتماماتها.
ولكن لماذا يدفع حمّة ورفاقه الى هذا المنحى ولماذا باتوا يخشون استكمال مستلزمات الانتخابات ؟
ولماذا دفعوا أحد شركائهم في الجبهة الشعبيّة (الشابي) إلى نعتهم بعدم الجديّة في تحقيق الوفاق ورغبتهم في جعل الحوار مناسبة للانقلاب على النهضة لا غير؟.
كان في اعتقاد اليسار الاستئصالي أنّه بإمكانه أن يُحرّك الشارع لإنجاز ثورة ثانية ضدّ الاسلاميّين وكان يتصوّر أنّ تجربة هؤلاء لن تطول في الحكم أكثر من شهر أو شهرين وأنّهم سيرمون منديل الهزيمة وسينسحبون صاغرين تحت ضربات المحتجين والثوار الجُدد والمقهورين في الارض والمفقّرين، ولكن خاب تصورهم أمام ثبات الترويكا وإصرارها على استكمال المسار الديمقراطي وانجاح الثورة برغم ما لقيته من ضربات البعض منها كان في غاية الإيلام على غرار اغتيال الفقيدين بلعيد والبراهمي والاستهداف الدموي الجبان للجنود وأعوان الأمن الوطني.
أخطبوط اليسار الاستئصالي
بات من الجليّ اليوم أنّ اليسار الاستئصالي يتخبّطُ في متاهات آخر مؤامراته على الثورة وعلى الانتقال الديمقراطي وعلى الاسلاميّين وعلى روح التعايش المشترك وعلى جسد المصالحة الوطنيّة بين أكبر عائلتين سياسيّتين في البلاد ، هذه المصالحة التي يعتقد هؤلاء أنّهم ستكون أكبر مهدّد لوجودهم السياسي في البلاد.
اليسار التونسي موقن أنّ منطق الأحجام السياسية والانتخابيّة لم يكن ولم يعد ولن يكون في صالحهم ولفائدتهم ولذلك فهم ساعون بجهدهم وباستثمار مواقعهم الاعلاميّة والحقوقيّة والأمنية التي غنموها زمن الدولة النوفمبريّة لتوتير أوضاع البلاد والدفع بها الى “فوضى خلاّقة” تعود بالبلاد الى حالة مشابهة لتاريخ 15 جانفي 2011 حيث أمكن لهم حينها أن يلعبوا دورا مهمّا بل كانوا وراء توجيه الأحداث على أكثر من صعيد منها على وجه الخصوص فرض المسار التأسيسي وحل التجمّع الدستوري الديمقراطي وتوجيه ضربات للجهاز الأمني وللادارة التونسيّة وخلخلة منظومة الحكم السابقة لإحداث فراغ كانوا يعتقدون أنّه بإمكانهم تثمينه للوصول للسلطة.
هم يبحثون اليوم عن تكرار نفس التجربة أي الدفع بالبلاد نحو الفراغ الدستوري والأمني والسياسي علّهم يتداركون حالهم التي ستكون ميؤوسة في حال استقرار الأوضاع وإجراء الانتخابات !!
هذه ليست تخمينات أو تكهّنات بل هي مؤشرات موضوعيّة عن مسيرة ونمط تفكير يبحث أكثر ما يبحث عن الأوضاع المتعفّنة لتحقيق المآرب السياسيّة وعلى رأسها افتكاك السلطة، وإلاّ بماذا يُمكن أن تُفسّر الاهتزازات الانقلابيّة للجبهويين وحلفائهم اليوم في علاقة بمسار الحوار الوطني؟!.
ولماذا يتلاعبون بهذا الشكل الغريب بحاضر البلاد ومستقبلها؟
ولماذا يستنفرون اليوم كلّ طاقاتهم ومخزوناتهم:
– الاعلاميّة (وسائل الاعلام النوفمبري ونقابة الصحفيين التي صرحت رئيستها نجيبة الحمروني هذا الأسبوع في الكويت بمناسبة التئام مؤتمر الصحفيين العرب بضرورة التصدي للمد الإخواني الإرهابي!! )
– والأمنيّة (النقابات الامنيّة المتنطّعة والمسيّسة )
– والحقوقية (الرئيس السابق للرابطة التونسيّة لحقوق الانسان ولجنة كشف الحقيقة في اغتيال الفقيدين بلعيد والبراهمي…)
– والأكاديمية ( والتي بلغت أقصاها في دعوة ألفة يوسف الى الانقلاب المسلّح..).
– والقضائيّة ( ممثليهم في المحكمة الاداريّة لقطع الطريق عن تركيز هيئة انتخابات وجمعية القضاة التونسيين التي ضاقت عليها تواريخ الدنيا ونفّذت إضرابا عاما يوم 7 نوفمبر..والقضاة الفاسدون لتعطيل المرفق القضائي وقطع الطريق أمام معالجة الملفات الخطيرة على غرار ملف التأمر على أمن الدولة).
مراقبون يؤكدون أنّ التحرّكات الأخيرة لهؤلاء متشنجة ومرتبكة ومفضوحة في توجهها التخريبي والفوضوي بما يعني شعورا بانكشاف مؤامرة توظيف الحوار الوطني لتمرير البرنامج الانقلابي وافتكاك السلطة عنوة ، لم ييأسوا ولكنهم يفشلون كلّ يوم أكثر ممّا كانوا يتوقعون بل أكثر ممّا كان يتوقّع خصومهم!!.
المصدر جريدة الضمير ليوم 10-11-2013