عبد الحميد قياس للفجر:
اغلب أعمال “وان مان شو” مجرد تجميع للنكت وكلام المقاهي والفايسبوك
حاورته جليلة فرج
هو بصدد الإعداد لمشروع مسرحية من إنتاج المسرح الوطني، وأيضا مشروع “سيتكوم” في رمضان المقبل مع ثلّة من الشباب، هو مبدع متصوّف، اختار الابتعاد عن الأضواء ليبحث عن ذاته، عُرف بـ”الشيخ تحيفة”، “الفجر” التقت الفنان عبد الحميد قياس فكان هذا الحوار:
لا نستطيع تجاوز شخصيّة “الشيخ تحيفة” عند حديثنا عن عبد الحميد قياس، إلى أي مدى حبستك هذه الشخصية وتغلّبت على بقية أدوارك وأعمالك؟
“اللي سماك غناك”، والأمّ تكون لديها عدد من الأولاد لكنهم مختلفون شكلا ومضمونا، وعندما نخيّرها من الأفضل بالنسبة إليها، لا تفرّق بينهم لأنهم كلّهم أولادها رغم أنه في الحقيقة هناك محبّة خاصة لأحدهم ولو كانت غير معلنة.
لكن يقال إن المحبة تكون أكثر للمريض أو الغريب؟
لا ليس بالضرورة لأنه لا وجود للعدل في المحبة بين الأبناء، هناك دائما ميل خاص لأحدهم، وشخصية “الشيخ تحيفة” تتنزّل في وقت معيّن، مع ممثلين معينين، وقد أخذ نصيبه من المحبة، ولو وقفنا عنده لبقينا سجناء فعلا. ونجاح مسلسل “الخطاب على الباب” ليس صدفة بل تضمن لمسة يجب أن ندركها كي نمرّ إلى الأفضل، وهو من الأعمال الخالدة فعلا.
عبد الحميد قياس إنتاجه مختلف، رؤيته للواقع الثقافي مختلفة، تعامله مع الشأن السياسي والاجتماعي يختلف، ويرى البعض أن حتى أسلوبه مختلف وأيضا شكله… ما هو سرّ هذا الاختلاف، هل هو اغتراب في حضور أم خلوة في جمع؟
ربما يكون اغتراب في حضور، أو العزلة في الجمع، لأنني بطبعي آخذ الوقت الكافي لدراسة الأشياء. أنا قليل الكلام لأنني لديّ أذنين اثنين وفم واحد، إضافة إلى أنني أسمع بعينيّ، وكلّنا لدينا لحظات كذب ونفاق وهروب وتملص، وأنا قمت بالموبقات السبع، وبعدها تُبت وخيّرت أخذ فاصل زمني رجعت بعده إلى القراءة والبحث، واكتشفت أن أكون حاضرا بالغياب أحسن من أن أكون غائبا بالحضور، لذلك قلّلت من علاقاتي الاجتماعية ومن الظهور الإعلامي.
نشتمّ من حركاتك رائحة التصوّف أو شيئا من مخزون ديني، ولم تخل (هذه الرائحة) من أي من أدوارك تقريبا، أين تكمن جذور هذه الرائحة؟
شكرا على طرح السؤال، كنت في الفترة التي ابتعدت فيها عن المجتمع أتصفّح الكتب، وشدّ انتباهي ابن عربي وبقيت مع كتبه طيلة أربع سنوات، وإلى اليوم لم يفارقني، ثم إن أصل تكويني كان في الكتاتيب وعلاقتي بالتصوّف جاءت من اللغة العربية التي اعتبرها وعاء التصوّف والفكر وهي مفاتيح الألغاز. والصوفية هي تأمل وهو معطى لكل الناس حسب الاجتهاد والعلم والمعرفة.
راجعت جذورك بشيء من القسوة النقدية ومزجتها بشيء من التهكّم والسخرية، فقدّمت الشخصية الدينية جدّ مبتذلة، هل هذا كلّه عتاب أم بكاء على الذي مضى؟
إن كنت تقصدين شخصية “الشيخ تحيفة” فهو ليس شخصية دينية، بل هو شخصية مهزوزة أثرت فيها الشيخوخة والعزوبية. هو إنسان موجود في بداية القرن العشرين متى انتشرت محلات بيع الخمور وبدأت تتكاثر “الزوي” وتتعدد الموسيقات، وبدأ التنازع بين الزيتونة والصادقية… هذا الشخص تترجم في حفظ للأجيال والموسيقى، وهو مزيج بين كل الحراك بما أوتي من علم بسيط، وهو دائم الحلم بماضي الأجداد، الماضي التليد الذي اختزله في التفاخر بالجذور الأولية. ولقطات الشعوذة تواجدت في المسلسل لأنها كانت مستحوذة آنذاك، أيضا ظهور الكتب الصفراء الهابطة، وفي نزوة التصابي، استعان “تحيفة” بهذه الكتب. والتهكمّ لا يصدر منّي شخصيا، لأنني حتّى وإن انتقدت تصرف بعض الأشخاص الذين يغالون في الدين، فإنني ألتزم بالنقد البنّاء وليس التهكّم.
عندما نشاهدك في أدوارك، يحصل لدينا الانطباع أن هذا الرجل لم يجد ما يفجر فيه طاقته الحقيقية، هل هذا صحيح؟
الطاقة الوحيدة أنني انفجرت ذاتيا حيث تصالحت مع ذاتي الفردية والجماعية، وما يحصل في البلاد قد لاحظته منذ زمن، ولدي من النظرة المستقبلية ما يكفي للتنبؤ بما سيحصل.
إذن كيف ترى مستقبل تونس؟
البلاد تمضي في الطين، لكن لا ننسى أنه عندما يتمّ علك الطين جيّدا خاصة بالأرجل يصبح تربة خصبة لنصنع ما نريد.
هل فعلا احتار عبد الحميد قياس في إيجاد عمل جديد يعبّر عن الراهن أم أن الإبداع حين يصبح آنيا يفقد قيمته؟
الإبداع هو وليد اللحظة، وعندما نقترف الشيء فالفعل دخل في الماضي ولكن الثمرات تقطف في الزمن الأبعد. اللحظة الإبداعية لديها تأثير على الوعي الباطني ثم قد تترجم إلى رؤى أو أحلام سعيدة أو من حيث لا ندري تدخل في مجال تطبيق العمل والتأثير على الصيرورة التاريخية، وذواتنا هي امتداد لنا في الماضي أما المستقبل فيبقى رهين اللحظات التي نمرّ بها.
تدافع على التونسي بكلّ قوّة، عن نفوره عن المنتوج الثقافي بقولك إنه لا يوجد من يدفع المال “لتكسير الراس”، إذن إلى أين تريد أن تدفع بالمنتوج الثقافي؟
يجب أن يكون المنتوج الثقافي بكل أصنافه هو مفتاح اكتساح النبوغ التونسي لكل الأصقاع لأن تونس حباها الله بشيء غريب وعجيب وليس صدفة أن تضمّ بلادنا أكبر مجموعة فسيفساء في العالم (حبوب، أسماك، فسفاط، تمور، زيتون..) في جغرافيا صغيرة جدا، فهي غنية بتراثها وموسيقاها وشعرها ونسائها… يجب المصالحة مع تاريخنا الكبير، والانفتاح هو باب مجهول والأصل ثابت نعود إليه كلّما دعت الحاجة لذلك.
هل لازال المسرح التونسي شأنه شأن السينما والأدب “نكدي” مثلما صرّحت في السابق؟
طبعا مازال، لأنه مصبوغ بالإحباط، وعندما تقلّ الطاقة الإيجابية وتطغى السلبية، فإن المنتوج سيكون متكلّسا متحجرا ينشر الضيق وانسداد الطريق.
كيف ترى علاقة الثقافي بالسياسي؟
اليوم نرى أن الثقافي أصبح يقوم بدور السياسي لأن في عهد بورقيبة كان هناك حراك ثقافي ولدهائه، ترك المجال لممارسة العمل الثقافي دون الاقتراب من السياسي حتى وإن لمحت بعض الأعمال عن الثغرات السياسية، ثم جاءت فترة بن علي الذي أغرق الثقافة بالمال، وأصبحت النخبة المثقفة تتناحر على الأموال، ورغم ذلك هناك من يتحصل على تمويلات وينتج وآخر لا يقدم شيئا، وبالتالي علاقة المثقف بالسياسة علاقة قديمة، ولكن في هذه الفترة اختار المثقف أن يتحوّل إلى سياسي في حين أنه يجب أن يقدّم أطروحات ثقافية تعالج هموم الإنسان بصفة عامة، والثقافي مهمته أسمى من السياسي الذي يجب أن يسهّل الأمور للمبدعين.
يرى البعض أن أغلب الأعمال المسرحيّة وخاصة الوان مان شو التي أنتجت بعد الثورة تحاول اختراق العقل والفكر بهدف تمييع الذوق العام، ما رأيك؟
هذه الأعمال لا تخاطب لا العقل ولا الفكر، وما يقدّم لنا اليوم ليس له علاقة بالتفكير والبحث والتمحيص بل هو هراء وهذيان من وحي اللحظات العابرة التي لا تؤسس، ثم إن هذه الأعمال مجرد تجميع لعدد من النكت وكلام المقاهي والفايسبوك التي يتم وضعها في قالب مسرحي غالبا ما يكون مركب للإيحاءات السفلية والغرائز والإحراج المقصود ومع الالحاح، وهذا الإحراج ونشر الغسيل لم يبق في حدود المجال الثقافي بل أصبح القوت اليومي لأغلب وسائل الإعلام، وهذا الانتهاك في الأعراض والحرمات غير لائق ولا يدخل في باب الحرية أو النقد الذي وظيفته الوحيدة وضع الإصبع على موطن الخلل. وحرية التعبير حق أريد بها باطل، حيث أن معشر الفنّ في الفترة السابقة لم يتعرضوا إلى قمع الحريات إلا ما قلّ وندر الذين تعرضوا إلى نوع من التسلط، ولكن ما تبقى من أهل الفنّ لا حاجة لهم ولم تطرح لديهم مسألة حرية التعبير لأن منتوجاتهم هي نفسها وهذا هو جهدهم أين أوصلهم، والمتميّز بينهم خلق لنفسه رقابة ذاتية وقصّ أجنحته بيديه باستثناء القليل الذين تعرضوا إلى مضايقات وليس إقصاء ومنع رغم أن الدولة كانت تموّلهم، واليوم وفي ظل هذه الحرية المتاحة ماذا قدّم هؤلاء الذين كانوا يدّعون غياب الحرية؟
هل لازلنا نعاني من فقر في النصوص المسرحية والدرامية؟
لا فقر ولا عطش، الأقلام موجودة وينقصها الورق والدعم. ويجب أن تولي الدولة اهتماما أكبر إلى الثقافة باعتبار أن أكبر مخبر هو الفنان الذي هو مرآة المجتمع ولكن هذه المرآة مازالت ضبابية ويجب تشبيبها.
كيف هو حال مسرحنا اليوم؟ وكيف ترى الساحة الثقافية عموما؟
البعض تحدث عن ركوب الساسة على الثورة ولكنهم نسوا ركوب الفنّ على الثورة حتى أصبحت الثقافة مثل “الأكلة السريعة” سريعة التعفّن. وطبيعي أن يظهر في مثل هذه الفترات الفنّ الساذج، وهذه موجة عابرة وتمضي مثل اللمجة السريعة لا تشبع ولا تتبننها، تشعر بأنّك أكلت شيئا لكن النتيجة على كم تحصلت من جرثومة. المعركة الكبرى اليوم ليست في المحتوى الذي أصبح على قارعة الطريق ومباح، بل في الشكل الذي أصبح الأهم للارتقاء بالذوق، ولما لا بيع أحلام وردية وطرح المشاكل بأسلوب فنّي راق، ونحن اليوم يجب أن نقوم بعملية تهذيب، وأن ندخل في ثورة ثقافية، لكن قبلها يجب أن نقوم بعملية مراجعة شاملة. ولنبني علينا معرفة أين كنّا وكيف يجب أن نكون، ويجب أن يعود المسرح إلى المدارس والجامعات والمصانع والمعامل، وأن نخرج من فكرة أن المسرح لا يكون إلا في قاعات العرض. الشارع اتسم بالهمجية، الأخلاق انحطت، وبالتالي كان هناك غول همجي ساكن التونسيين وكان هناك غول آخر أخرسهم، هرب الغول الثاني فظهر الغول الذاتي الذي اتضح أنه بشع وله توق للهمجية، وساهمت في ذلك وسائل الإعلام التي زرعت ألغاما في إطار حرية التعبير، مستخدمة في ذلك قاموسا لغويا يجب مراجعته.
ماذا يمكن أن تقول عن وزير الثقافة الجديد مراد الصقلي؟
كنت أحبذ أن يكون على رأس وزارة الثقافة مثقف دون أن يكون مختص أو متخصص في مجال ثقافي معيّن، ولكن أتّسم في الوزير الجديد الكثير من الخير الذي استشفه في خلقه وحسّه المرهف، وأرجو أن لا تعصف به الرياح.