الفجر -تونس
فائزة الناصر
لم يعد الباجي قائد السبسي، الّذي ظل إلى وقت قريب المظلّة القادرة على احتواء كلّ الخلافات داخل “حركة نداء تونس” والحد من انعكاسات معارك كثيرة وإجهاضها وهي في المهد، قادرا اليوم على كبح جماح ثورة التجمعيين أو الشقّ الذي يُحيط بفوزي اللّومي ومحمد الغرياني ومجموعة ما يسمّى بالدساترة والتّجمعيّين السابقين الذين ضاق ذرعهم بمحاولات الشق اليساري الذي يقوده الطيّب البكُّوش، لاختطاف الحزب والاستحواذ على مبادرتهم التي أعلن عنها زعيمهم السبسي يوم 26 جانفي 2012 والتي انتهت بتأسيس حزب “نداء تونس”. ويتقد الصراع داخل الحزب مع قرب الاستعداد للاستحقاقات الانتخابية القادمة، والّتي ستجعل من السّباق على رئاسة القائمات أولويّة كبرى للشق الدستوري خاصّة بعد السّعي المحمُوم للشق اليساري للسّيطرة على الفروع والجهات والتنسيقيات بالخارج والمؤسسّات داخل الحزب.
إنّ إقالة عضو المكتب التنفيذي المحسوب على الشق اليساري المتطرف داخل حزب نداء تونس عبد العزيز المزوغي وتجميد لزهر العكرمي ومحسن مرزوق ومن لف لفهم في شق أمين عام الحزب الطيب البكوش، يخطو حزب “نداء تونس” خطوة حاسمة نحو توحيد هويّته السياسية والإيديولوجية ونحو القطع مع فسيفساء المرجعيات الإيديولوجية التي جعلت الحزب بلا هوية ولا لون سياسي ولا برنامج واضح، ونحو استرجاع المبادرة السياسية التي اختطفها اليسار في أغلب المحطات السياسية الماضية. ويبدو أيضا أنّ أحلام اليسار الاستئصالي باستعادة مخطط التسعينات بتحالفهم مع الدساترة والتجمعيين للتخلص من الإسلاميين وإزاحتهم من الساحة السياسية قد بدأت في التلاشي شيئا فشيئا، وتضاءلت فرص نجاحهم في توظيف هذا المولود الحزبي لاستئصال خصومهم التقليديين واستغلال نفوذ الدساترة والتجمعيين لدحر النهضة وتحجيم فعلها في المشهد السياسي، وبدأت تظهر مؤشرات لانحسار دور اليسار داخل النداء وأفول نجمه.
تكوين جبهة موازية للإسلاميين
برز اليسار في مقدمة حزب “نداء تونس” في بداية تشكله نظرا لطبيعة المرحلة السابقة التي أحسن اليسار استغلالها لقيادة معركته الأزلية مع الإسلاميين والتي كانت تستدعي تكوين جبهة موازية لحركة النهضة التي اكتسحت الشارع وحظيت بتمثيلية واسعة داخل المجلس التأسيسي، جبهة لم يكن من الحكمة أن يتقدمها في ذاك الوقت تجمعيون أو دساترة فتقدمت القيادات اليسارية واجهة “النداء” واحتلت المنابر الإعلامية وعملت على تمرير خطابات “خطر المدّ الإسلامي والدولة الدينية” و”أخونة الدولة” و”تهديد الرجعية والأصولية لمكاسب الحداثة” وغيرها من المقولات الإيديولوجية التي أنتجها اليسار الاستئصالي.
غير أنّ اقتراب الاستحقاق الانتخابي وتغيّر نوعية الرهانات القادمة وبداية تشكل خارطة سياسية جديدة قد تذهب بأحزاب وقد تأتي بأحزاب أخرى، وقد تستدعي تحالفات وتفكك أخرى، هذا الاستحقاق مثل نقطة فارقة في توجه “النداء” ورؤيته السياسية. فبدأت الخلافات والصراعات داخل الحزب تتصاعد وتعلو وتيرتها بين الشق اليساري وبين شق التجمعيين والدساترة وانتهت إلى تبادل سيل من التهم المتبادلة تحوم أساسا حول السيطرة على مفاصل الحزب والهيمنة على قراراته، كما أدت في بعض الأحيان إلى وجود هيكلين تابعين للحزب على غرار ما حدث في أحد فروع فرنسا.
التجمعيون والدساترة يستعيدون مقود القيادة
قرّر التجمعيون والدساترة الذين رأوا أنّ مواقعهم داخل “النداء” لا تعكس نفوذهم وإمكاناتهم المالية والعددية، وأن اليسار على قلة إمكاناته وعدده قد اختطف مواقع القرار وسطى على سلطة التوجيه السياسي للحزب، قرروا أن يستعيدوا حصونهم ومواقعهم الأمامية وزمام المبادرة السياسية، وأمسكوا بكل خيوط اللعبة داخل الحزب. ولم يعد لهذه القيادات أي رغبة في استنساخ سيناريو التسعينات أو أن يكونوا مجرّد وقود لمعارك اليسار الانتهازي وصراعاته الإيديولوجية مع الاسلاميّين، كما أيقنوا بأنّ لا مصلحة لهم في استعداء الإسلاميين أو الدخول في معارك جديدة معهم. والأكيد أيضا أنهم أدركوا جيّدا أنّ تطرف مواقف الشق اليساري داخل النداء في الفترة السابقة فيما يتعلّق بالتحالفات والتوافقات والحوار الوطني كادت تكلّف الحزب فاتورة باهضة لم يعودوا على استعداد لسدادها وأصبحت قراراتهم تشكل عبئا ثقيلا على “النداء” وعلى التجمعيين والدساترة.
التحاق الغرياني بالحزب وتغيّر خيوط اللعبة
التحاق محمد الغرياني الأمين العام لحزب التجمع المنحل “بنداء تونس ليشغل منصب مستشار سياسي رفيع المستوى لرئيس الحزب، مثل نقطة فارقة في توجه الحزب وبدا ذلك من خلال تغيير التوجهات الكبرى للحزب والتي تصبّ جميعها في اتجاه ترجيح كفّة التيار الدستوري والشروع في إعادة ترتيب البيت وتغيير المواقع داخل الحزب بما يفسح الطريق لتصدّر الدساترة والتجمعيين للمواقع الأمامية مقابل تراجع وانحسار دور اليسار.
دور محمد الغرياني وشق اللومي في صناعة القرار داخل حزب نداء تونس وتوجيه سياساته الجديدة بدا واضحا وجليا ترجمته قرارات المجلس الوطني الأخير الذي ترتب عنه تعيين السيّد محمّد الناصر المعروف بانتمائه الدستوري واشتغاله لسنوات في ظل حكم الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، نائبا للسبسي، ثمّ تأجيل المؤتمر الوطني للحزب إلى ما بعد الانتخابات القادمة، في الوقت الذي كان رموز اليسار داخل “النداء” يراهنون عليه، من أجل السيطرة على المواقع القيادية بالاعتماد على ما استحوذوا عليه على مستوى بعض التنسيقات التي سهروا على إعدادها بأنفسهم، كما أن المؤتمر سيكون مؤتمرا قاعديا لا تأسيسيا يقرّ ما كان موجود من مؤسسات وهياكل كما أراد يساريو النداء.
دور الغرياني وشق فوزي اللومي في توجيه القرار داخل الحزب بدا أيضا من خلال إسناد مهمة الإشراف على تحضيرات الانتخابات واستعداداتها إلى القيادي السابق بالتجمع ورجل الأعمال فوزي اللومي بالاستعانة بحافظ قائد السبسي من أجل إعادة ترتيب التنسيقيات التي سيطر اليسار على أغلبها لتحقيق التواجد الدستوري الضروري بها.
يسار “النداء” والاندحار إلى المواقع الخلفية
خسر يساريو النداء خسرانا مبينا، واندحروا إلى المواقع الخلفية وانتهى دورهم في قيادة الحزب ورسم سياساته وتوجهاته. ولم تعد هناك فرصة للطيب البكوش الأمين العام للحزب وزعيم الشق اليساري داخل “النداء” لكي يكون الرجل الثاني بعد السبسي أو مهندس السياسات الخارجية للحزب خاصة في ظل وجود محمد الناصر ومحمد الغرياني -وبالطبع- فوزي اللومي. وفي نفس السياق انحسر دور باقي قيادات اليسار داخل “النداء”على غرار محسن مرزوق، والأزهر العكرمي، وبن نتيشة. ولم يبق للشق اليساري سوى القبول بالتواجد في المواقع الخلفية والانضباط لقرارات القيادة الجديدة أو الانسحاب من الحزب الذي لن يكون فيه مكان لإيديولوجياتهم المتطرفة ولنزعتهم الاستئصالية.
والأكيد أنّ محمد الناصر لن يكون الدستوري الوحيد الذي سيلتحق “بالنداء” في قادم الأيام بعد أن اختار الدساترة والتجمعيين توضيح هوية حزب ” نداء تونس” في اتجاه استلام قيادة سفينة الحزب واستعادة قلاعهم بداخله فقد أصبح الحزب قبلة تغري العديد من الدساترة والتجمعيين القدامى للانضمام له، والأكيد أنّنا سنسمع في الأيّام القادمة بأسماء أخرى تنظم للحزب.