نضال السعيدي
“إذَا سمعتَ الرّجُلَ يقولُ ما ترَكَ الأوّل للآخر شيئا..فاعْلَم أنّهُ لاَ يُريدُ أنْ يُفْلِحَ” الجاحظ.
لاَ شكَّ فِي أنَّ الثورةَ التِي حدَثَتْ فِي بلادِنَا عملٌ إبداعِيٌّ كانَ أرْقَى مُبدِعيهِ الشُّهدَاءُ وذلكَ مِنْ وَجْهينِ أوّلُهُمَا أنَّ الدّمَ أعلنَ ميلادِ ثورةِ شعبٍ فَاجَأتِ العالَمَ وفاقَت توقّعاتِ حُكماءِ الثَقافةِ وأهلِ السِّياسةِ والمُنظّرينَ فِي ميادِينِ المعرفِةِ لأنّها خرَجتْ عنْ تنظِيراتِهِم وتجاوزتْ مقولاتِهِم وابتَعَدتْ عَنْ حضائِرِ ايديولوجِيّاتِهِم . أمّا ثانِيهِمَا فهو أنَّ مَنْ خَرَجُوا لِمُكافحةِ البنَادِقِ فِيِ حراكِ 17 ديسمبر وبقُوا على صراطهِ المستقيمِ أضفوا مَعنًى على وجودِ الإنسانِ فِي كفاحِهِ ضدَّ الظلمِ وشوقِهِ إلَى إدراكِ منازلِ الكرامةِ وهذَا دورٌ منَ الأدوارِ المهمّةِ التِي يضطَلعُ بها المُبدِعُ . ممّا تقدَّمَ يُمكِنُ لنَا أنْ نشتَقَّ تعريفًا للإبداعِ يستقيمُ وَ مَا سيَأتِي منَ الكلامِ بعدَهُ. فالإبداعُ في معناهُ المُبسّطِ هوَ نسجٌ علَى غيرِ مِثالِ وإتيانٌ بالجديدِ الذِي لَمْ يَكُنْ . فهو بالأساسِ حركةُ تَجاوزِ للسَّائدِ المتواضع عليهِ فِي طَلبِ الحقِّ والخيرِ والجمالِ . وهذا التعريفُ وإن لمَ يكُن جامِعًا مانِعًا فهو وظيفيٌّ فِي مقالِنَا هذَا حيثُ أنَّ إرجاعَ النظرِ فِي ما عليهِ ميادينُ المعرفةِ الإنسانيّةِ أو العلميّةِ على وجهِ الخصُوصِ وما عليهِ ميادينُ الحياةِ جُملةً على وجهِ العُمومِ يُفضِي بنَا إلَى تبَيُّنِ غيابِ الإبداعِ باعتبارهِ حركةَ تجاوزِ نحوَ متعالياتِ الوجودِ البَشَرِيِّ وغاياتِه السّاميةِ .
بعضُ أعراضِ غيابِ الإبداعِ عندَنَا :
لاَ يخفَى أنّ أظهرَ أعراضِ غيابِ الإبداعِ عندَنَا هوَ استِعاضةُ النُخبةِ التِي تُعهدُ إليهَا فِي المجتمعِ مسؤوليّةُ الإنتاجِ الرمزِيّ عن دورهَا فِي الإبداعِ إلى دور فِي تزيينِ واجهةِ نظامِ الهيمنةِ والإخضاعِ لسنواتِ خَلتْ. وهذهِ النُخبةُ مازالت فِي أغلبِهَا كَافِرةً بالثورةِ التِي تجاوزتهَا وأعلنت وفاتَهَا معرِفيًّا وأخلاقِيًّا فلمّا لم تقدِر علَى مسايرَتِهَا علَى صهوةِ الجِدَّةِ عَمِلتْ معَ قُوَى الردِّةِ علَى نسفِ مسارِ التحرّرِ وإلجامِهِ بمقولاتِ وتحاليلَ ورؤًى رَجعِيّةً . ولمّا كانَت هذهِ النُخبُ الرجعِيّةُ التِي عملت في حراسةِ نظامِ النهّب وماتزالُ ،مبثوثةً فِي مؤسّسات الدولةِ عموما وفي المؤسّسات المصنّعةِ للثقافةِ والراعيةِ للإبداعِ خاصّةً فإنّها اجتهدت بلا هوادَةِ فِي نشرِ رجعيّتِهَا .
ولنَا على ذلكَ أكثَرُ مِنْ بَيّنةِ حيثُ أنَّ مَنْ يراقِبُ المشهَد السّياسيّ أو الإعلامِيّ أو الثقافِيّ أو مواقعَ الاتّصالِ الافتراضيّةِ يتأكّد مِنْ تَسيُّدِ العقلِيّاتِ السلفيّةِ سواءٌ بعناوينَ دينيّةِ أو عناوينَ حداثِيّةٍ. هذه الذهنياتُ على اختلافِهَا ظاهريّا تتآلفُ منهجيًّا في إسهامها في اغتيالِ ذهنيّةِ الإبداعِ عندَ أجيالِ تترَى وذلكَ بتسويقِهَا للحلولِ الجاهزةِ على أنّها وصفةُ خلاصِ الأمّةِ مِنْ نكبتِهَا ، إمّا باستعادةِ الحياةِ ومُثُلِهَا كما يعتقِدُون أنّها حدثَتْ فِي ماضِي الدينِ الإسلامِيِّ وتطبيقِهَا على العمَى، وإمّا باستنساخِ الحياةِ ومُثُلِهَا كما يعتقِدُونَ أنّها تَحدُثُ فِي حاضرِ العقلِ الغربِيِّ وإيقاعِهَا بالقوّةِ . والقولُ بنقلِ ما حدثَ أو يحدُثُ كما هوَ ليسَ إلّا قولاً بنفيِ الاجتهادِ فقَولاً بنَفيِ الإبداعِ لأنَّ الأجدَى أن نبحثَ عن زمننَا الثَقافِيّ الذِي نعيشُهُ دونَ أن نعلَمَهُ على عكسِ زماننا الطبيعيِّ الذِي نعلَمُهُ دونَ أن نعيشَهُ،وبعدَها يكونُ النظرُ بطرحِ الأسئلةِ الصحيحةِ عن ازمتنا لاَ بتقديمِ أجوبةِ لأسئلةِ لا غايةَ لنا فِي طرحِهَا.
ولاَ يخفَى أنَّ مِنْ أعراضِ غيابِ الإبداعِ عندَنَا علاقتُنَا المُشوّهةُ باللغةِ العربِيّةِ لُغتنَا القوميّةِ التِي تختزنُ فِي تاريخِ مفرداتِهَا ونظامِ تشكّلهَا ثقافةَ الأمّةِ من جهةِ وأفقَ الخيالِ الذِي يحدُثُ الإبداعُ فيهِ من جهةِ أخرَى . وهذا ينتهِي بنَا لاَ محالةَ إلَى البحثِ فِي أسبابِ أزمةِ الإبداعِ هذهِ.
مِنْ أسبابِ أزمةِ الإبداعِ :
لعلَّ مقامَ القولِ لاَ يتّسِعُ للتفصيلِ فِي الأسبابِ المعرفيّةِ والتاريخِيّةِ لأزمةِ الإبداعِ عندَنَا ، ولكنّ الإشارةَ إلَى أنَّ العقلَ العرَبِيّ كما شرَّحَهُ بعضُ المفكّرينَ الباحثينَ فِي عللِ توقّفِنَا عن إنتاجِ المعرفةِ يحملُ فِي ذاتِهِ سببَ إعدامِهِ لأنَّهُ نفرَ فِي لحظةِ الغزالِي على وجهِ الدقّةِ منَ المعرفةِ العقلِيّةِ وانتصرَ للمعرفةِ الحدسيّةِ الصوفيّةِ . ولئنْ كانَ العقلُ العربِيّ قد توقّفَ بنفسِهِ عن إنتاجِ المعرفةِ فإنَّ ما حدثَ بعدَ ذلكَ مِنْ تدَخُّلِ الاستعمارِ فِي بلادِنَا وماخلّفهُ مِنْ دولةِ استقلالٍ شكلِيِّ مازالتْ منذُ أمدٍ تدينُ بالولاءِ للاجانبِ وتعملُ بالوكالةِ لتصريفِ مصالِحِهم ، لهُ كبيرُ الدورِ فِي هذا الشللِ الذِي تعانيهِ الامَّةُ .
وقد أنجبت هذه الدولةُ مؤسّساتِ متخَلّفةً على رأسِهَا المؤسسّاتُ التعليميّةُ التي مازالت تشكُو منَ الفسادِ برامجًا وكفاءاتٍ ،ومنَ القطيعةِ فِي علاقتهَا بسوقِ الشغلِ ممّا يجعَلُ العلمَ والعملَ لاَ متوافقينِ بل متفارقينِ فِي بلدِ يُريدُ النّاسُ فيهِ أن يأكلوا كي لا يموتوا جوعا قبل أن يقرؤوا كي لا يموتوا جهلا،وهذا لا غرابةَ فيه. ولاننسَى أنَّ المنظماتِ الطلاّبيةَ التي تتحرّك باسمِ الطالِبِ فِي الأجزاءِ الجامعيّةِ تستغلُّ الأجيالَ المدجّنةَ التِي اغتيلَتْ عقُولُهَا فِي معاركَ لاتمتُّ لهاَ بصلةِ بقدرِ ماَ هيَ مآربُ أحزابِ سياسيّةِ تتصافحُ على طاولةِ الحوارِ وتفتلُ السواعدَ فِي ساحاتِ الجامعةِ فتعيشُ بذلكَ على بقاءِ الطالِبِ مفقّرا ذهنيّا وإن أوهمتهُ فِي بعضِ الأحيانِ أنّها تدافعُ عن مطالِبهِ بإرضائهِ ببعض الإنجازاتِ المادّيةِ وكانّها تختزلُ الإنسانَ فِي اكل خبزِ وركوبِ حافلةِ دون أن يكون حامل قلمٍ وقِيمٍ.
وقد لا نجدُ المتّسعَ للتبسّطِ في عرضِ الاسبابِ الجمّةِ التِي تعوقُ قيامَ الإبداعِ فِي ميادينِ الحياةِ جملةً عندناَ ولكننا قد أشرنا إلى مَنْ يقوم باغتيالِ عقلِ مَنْ ينتَظَرُ منهُم أن يكونوا مبدِعينَ متجاوزينَ ،ونشيرُ إلى غيابِ الدعمِ المادِيِّ للمشاريعِ الجديدةِ المبتكرةِ والدعمِ الإعلامِيِّ الذِي يحتَكِرُهُ من كانُوا يتمسّحُون على أعتابِ نظامِ عصابةِ السّراقِ ومازالُوا.
رهاناتُ الإبداعِ وشروطِ تحقّقهِ :
“يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا” _صدق الله العظيم إنَّ الإبداعَ باعتبارهِ ترجمة لتجربة الأمّةِ في التاريخِ وخلاصةً لإرثهَا الثقافِيّ ومخزونِهَا الحضارِيِّ وحزمةِ آمالها وتطلّعاتِهَا هو بطاقةُ هويّةِ تتعارفُ بوساطتها الأمم في ما بينهَا وتتشاركُ في بناءِ عالمِ الإنسانِ وتحقيقِ العمرانِ البشرِيِّ على قاعدةِ الاستخلافِ القرآنِيِ. ولمّا تحوّلَ الواقعُ العالمِيُّ إلى واقعِ صراعِ اختلّت فيه الموازينُ فتغيرّت ادوار الإنسانِ من البناءِ إلى النهبِ صارَ لزاما على الأمّةِ أن تدلِي بدولها وتنافِسَ على الوجودِ والفعلِ حيثُ أن الطبيعةَ لا تأبَى الفراغَ وما لايمتلئُ بنا سيمتلئُ بغيرنَا.
هكذا تتحدّد الحاجةُ إلى الإبداعِ على أيّامنا ملحّةً باعتبارهِ وجها من وجوه المقاومةِ سواءٌ كانَ مقاومةَ الجمودِ والاستبدادِ الداخلِيّ وحطمِ طبقاتِ الموتِ التِي ترسّبت في وجدانِ الإنسانِ العربِيِّ المسلمِ أو مقاومةِ الاختراقِ الخارجِيِّ وعولمةِ النمطِ الراسمالِيِّ الذي يحاول اغتصابَ الثقافاتِ وإقامةَ طرازِهِ الاستِعمارِيّ عبرَ نشرِ ثقافةِ الاستهلاكِ التي تنتجُ الإنسانَ المَسْخَ المنفَصِلَ عن القيمةِ والمعنَى مختزلاً فِي بعدهِ الواحدِ..
ولمّا كانت هذه اهمّ الرهاناتِ التي تجعل الحاجةَ إلى الإبداعِ ملحّةً ، كان توفيرُ الظروفِ التِي تتيحُ الابتكارَ والاختراعَ ضرورةً ولامناصَ . وهذا في رأيي يتطلَّبُ إصلاحًا فلسفيّا للعقلِ العربِيِّ الإسلامِيِّ ليكونَ قادِرًا على تجاوزِ عوائقهِ الداخِلِيّةِ التي جعلتهُ يتوقّفُ عن إنتاجِ المعرفةِ ، وهذا الإصلاحُ هو الذِي سيُمكّنُ من نقدِ فهمنا للأصيل والدخيلِ على وجهِ السواءِ وإعادةِ بناءِ شروطِ نهضتنَا التي تبدأ لا محالةَ بتحقيقِ شروطِ القوّةِ في الدولةِ وهذا لايكونُ دونَ أنْ تستقلَّ عنْ التبعيّةِ للقتلةِ الاقتصاديّينَ العالمِيّينَ حتّى تتاحَ ظروفٌ سياسيّةٌ وماديّةٌ ممكنةٌ للإبداعِ ..
ويبقَى كُلُّ هذَا رهينَ مدِّ الثورةِ حيثُ سيصلُ منَ الحياةِ والذهنيّاتِ .. فإذا كانَ الجزرُ تقدّمَ رملُ من يعانونَ مِنْ جفافِ القرائِحِ وعُقمِ الخيالِ وفَسَادِ الضَمائِرِ في انتظار العودة الى هذه الفريضةِ الغائبةِ فريضةِ الإبداعِ.