جليلة فرج
الفنان مقداد السهيلي، الكاتب العام لنقابة الفنانين المحترفين، تاريخه الفني حافل، ومثير للجدل، فهو الذي كوّن مجموعة موسيقيّة تهتمّ بتقديم فنّ ملتزمٍ وهادف، وذلك صحبة نخبة من رفاقه الطّلبة سماها (مجموعة أصحاب الكلمة) وذلك سنة 1983، ومن بين أعماله شريط «غروضات» الذي تميّز بظهور نوعيّة موسيقيّة جديدة أحبّها الجمهور التونسي واستحسنها، كما قدم سنة 1996 مسرحيّته الشّهيرة «32 جويلية» التي شهد لها أكبر النقّاد بتميّزها وتفرّدها عن بقيّة الأعمال الأخرى.
“الفجر” التقت السهيلي وتحدثت معه عن مسيرته وآرائه في الساحة الفنية والموسيقية.
ما هو جديدك الفنّي؟
أنا بصدد التحضير لألبوم جديد لمجموعة أصحاب الكلمة للأغنية الملتزمة، ويحتوي على ثماني أغان، الأولى إعادة لأغنية “المال قليل”، وسبع أغان جديدة، وهي “متقلق”، “انتخبوني أنا”، “قناة الجزيرة”، “سيدي الرئيس”، “ما تحكمنيش”، “أنا موش ثوري”، و”الراب عليكم”. كلّ الأغاني من كلماتي وألحاني باستثناء “متقلق” كلمات الجليدي العويني.
ماذا تقول عن الكلمة في الأغنية التونسية، وهل فقدت هويتها؟
في الماضي كانت الأغنية التونسية تحتوي على كلمات راقية، رغم أن الأغنية الناقدة كان نصيبها في المشهد الغنائي ضعيفا؛ لأن الساحة الموسيقية كان يغلب عليها موضوع واحد، هو الحب والهيام والغرام. واليوم فقدت الكلمة معناها ومصداقيتها وإطارها وصاحبها؛ لأن صاحبها بدوره لم يكن صاحب كلمة. ورغم أن الكلمة ركيزة أساسية من ركائز الأغنية، إلا أنها سلكت مسلكا قبيحا ومريبا، وأصبح القبح والابتذال والخوض في أعراض الناس مورد رزق العديد.
ما أكثر ما يغضبك أو لا يعجبك في الساحة الفنية اليوم؟
المتطفلون والمتسلقون وما أكثرهم. كنّا نعاني من أزلام النظام، فأصبحنا نعاني من أزلام النضال، وأصبحنا نعيش في مشهد فنّي تعيس، ومشهد سخافي وليس ثقافي، والتاريخ بيننا وبينهم..
الساحة الفنّيّة فيها الكثير من الأصوات الغنائية، ما رأيك فيها؟
لدينا طاقات وأصوات من أجمل الأصوات العربية، لكن أغلب هؤلاء في قاعة الانتظار، وهم معذورون في ذلك، لأن مثلما يقول المثل الشعبي: “لا تخلط روحك مع النخالة ولّا يبربشك الدجاج”.
ما الشروط التي ترى أنه من الضروري توفرها في المطرب الناجح؟
النجاح الفعلي والخالد لا يكون إلّا بالصدق، وأم كلثوم نجحت لأنها كانت صادقة، ولكن ما هذا الذي نشاهده اليوم من عراء وابتذال؟ أمن هؤلاء ننتظر النجاح؟ ما هذه الأخلاق التي نحن بصدد ترسيخها وتمريرها لأطفالنا؟ إنه أمر مخجل ومؤسف، وما هم بصدد ترويجه اليوم وما اتفقوا على ترويجه هو مؤقت ولن يدوما طويلا، وهذا من مخلفات الثورة، ولكنها في النهاية ليست سوى فوضى في الروضة.
لكن هُم يتعلّلون بأن الجمهور يُريد هذا؟
الجمهور لا يطلب إلا الراقي والمنطقي، وإذا أردت أن تطاع فاطلب المستطاع، وجمهورنا لا يطلب إلا المستطاع، ولكن لا ننسى أنه ما تكرّر تقرّر، وهؤلاء المتطفلون يقدمون شيئا من الأشياء طبعا لا يمكن تسميته فنّا؛ لأن الفنّ له مواصفات، وما يمرّر اليوم في أغلبه كلام قبيح؛ لأنه ما أسهل الهدم وما أصعب البناء.
عندما يغنّي التونسي أغنية خليجية أو مصرية… هل يسيء للأغنية التونسية؟
لا أبدا، ولكن يجب أن يختار أغان راقية. وهناك من يساهم في إلغاء الأغنية التونسية من قاموس الأغاني العربية. فعندما تستمع إلى إذاعاتنا تنتبه إلى غياب الأغاني التونسية بشكل ملحوظ حتى أنك تشعر أنك في لبنان أو مصر، ويتعللون في ذلك بقلّة الإنتاج التونسي، وهذا غير صحيح؛ لأننا لدينا إنتاجات وعلى جودة عالية. هنالك من الإذاعات الخاصة من أمضت عقودا مع شركات إنتاج عربية تتقاضى منها الملايين وتمرّر إنتاجاتها.
ولكن لماذا لا يغني مقداد السهيلي بلهجة مختلفة عن التونسي؟
يمكن أن أغنّي إذا طلب منّي، ولكن قوميتي ووطنيتي وبلادي وجنسيتي واختياراتي واتجاهاتي تُملي عليّ أن يكون التونسي في مرتبة أولى، و”كل طير يلغي بلغاه”.
هل تعتقد أن نقابة الفنانين خدمت الفنُان التونسي؟
لا البايات ولا بورقيبة وبن علي ولا المرزوقي خدموا الفنان التونسي. تولينا نحن الاهتمام بالنقابة، ولاقينا ما لاقينا من تعب، وقلنا إن البحر أمامكم والعدو وراءكم وليس لكم من حلّ غير الصدق والصبر، واعلموا أنكم كالأيتام في مأدبة اللئام. وبدأنا في خدمة هذه النقابة، وما حققناه من أشياء بسيطة إلى الآن نعتبره بداية ونقطة مضيئة في تاريخ العمل النقابي في المجال الموسيقي في تونس، وإننا نعمل على خدمة بعض الملفات الاجتماعية مع مطربين معوزين أو مرضى.. ونعمل أيضا على ملف الملكية الفكرية والأدبية.
ما مدى صحة مقولة إن الزمن الرديء لا يولّد فنّا أصيلا؟
هذه مقولة لا يمكن أن تكون صحيحة؛ لأنه لدينا مثل يقول: “تخرج النوارة من الزبالة”، ويمكن أن يكون الزمن رديئا والمجتمع أردأ والحكومة أتعس، ولكن أنا لست مجبرا على أن ألبس عباءة هذا الزمن الرديئة.
برأيك ما هي الأسباب الحقيقية لرداءة المشهد الغنائي التونسي؟
هجوم الخفافيش في واضحة النهار دون خجل، وتلك الأيام نداولها بين الناس، وهي موجة عابرة وستمضي.
لماذا أصبحنا لا نشاهد أغلب الفنانين إلا في صورة الضحايا الذين تعرضوا للعنف، لماذا يريدون ترسيخ عداوة بين المثقف والشعب؟
هم يريدون ولا يكون إلا ما يريده الله، حبل الكذب قصير، فبكذبهم وبقنواتهم المتورّطة في المال الحرام وفي دموع العمال، يسعون إلى هدم القيم والأخلاق، ولكنهم لن ينجحوا في ذلك.
هل أصبح مفهوم الإبداع هو السبّ والشتم والخوض في أعراض الناس؟
نعم هذا مفهومهم، وهذا اختيارهم مع قنواتهم وأصدقائهم في الليل وفي واضحة النهار، ولكن نحن لدينا مواصفات نشتغل بها، وإذا كانت الشهرة بهتك الأعراض فلا أهلا ولا سهلا بها، ولا أرغب في شهرة كرتونية، والسموم التي يمررونها في وسائل إعلامهم يقنعون بها أنفسهم أنهم سيطروا على 11 مليون تونسي، لكن حتى السكير والمجرم لا يوافقهم الرأي.
برأيك كيف تؤثر التجاذبات السياسية القائمة اليوم على الثقافة؟
العلاقة بين الثقافة والسياسة علاقة جدلية، وما تسعى إليه بعض الأطراف وبعض الأحزاب السياسية لتقزيم الفنان هو علامة من علامات إفلاس ذلك الحزب. ونلاحظ أن المثقف هو آخر اهتمامات السياسي، ودخلت الثقافة في خانة الترفيه، وما دام السياسي مصرّ على أخذ الثقافي من الجانب الترفيهي فقط، فسوف لن يجد ترفيها في الغد؛ لأن الثقافة علم ودراسة، ووعي وممارسة ومهنة، وهناك 14 ألف عائلة تعيش من الموسيقى. ونلاحظ وجود غباء سياسي عام في تونس يتمثل في تجاهل أهل الثقافة، وهو أمر مضحك يدلّ على فقر المعرفة السياسية.
هل المثقفون التونسيون يشكّلون فعلا طبقة يمكن أن نطلق عليها طبقة المثقفين؟
نحن لنا مثقفون تونسيون في مختلف الفنون، ولكن الأنظمة السابقة جعلت من الثقافة ميدانا هشّا وحمارا قصيرا. والفن صناعة ثقيلة، لكن هذا الشعب أرادت منه الحكومات أن يكون شعبا بدائيا ينبش دائما على الخبز ولا يثور إلا عندما يرتفع سعر الخبز، وما دامت الثقافة خارج قفة المواطن، سيظل المواطن تعيسا ومجهّلا.
أغرقتنا وسائل الإعلام بطوفان الأغاني الهابطة، كيف يمكن أن نواجه هذا المدّ الجارف حتى نحافظ على أصالة تراثنا الغنائي وحتى نرتقي بأغنيتنا؟
إنه طوفان الأشياء الهابطة، فهو ليس فنّا ولا غناء، ونحن نعاني من تعاسة المعرفة، وقد دخلنا في مرحلة “تطييح قدر” عامة، ومن المفروض إقامة “وزارة تطييح القدر” تضم أغلب وسائل الإعلام وأشباه المثقفين والسياسيين الذين لديهم قاعدة شعبية لا تتجاوز العشرات، بالإضافة إلى كل المنحطين. ولكن عموما لا يوجد أي ميدان مسيّج، وكلّ الميادين اخترقت، فنجد من هو متحصل على باك إلّا سبعة ويسبّ رئيس الجمهورية أو رئيس حركة أو وزيرا أو مناضلا، وهذا عيب، وعاش من عرف قدره، وإذا كان الكلام فضة فالسكوت ذهب. والمشكل الحقيقي أننا في حاجة ملحة إلى الإرادة السياسية لوضع حدّ لهذا المرض الذي بدأ يستفحل مع الأسف.
لو تسلمت مهمة على رأس وزارة الثقافة، فمن أين تبدأ؟
لو أصبت بذلك سأحاول الانطلاق من البداية. في الميدان الثقافي غالبا ما نجد أنفسنا في حالات استعجالية، ونبدأ من النهاية؛ لأنه ما زال لدينا الأضراس المسوّسة، وملفات الفساد التي لم تفتح بعدُ، وأقول إن “جفّال” تونس لا ينظف بشكل جيّد، ووزارة الثقافة فيها الكثير من الخور والتجاوزات، والوزير الحالي مراد الصقلي قد تسلّم منصبا في وقت قياسي، وبعد عشرات السنين من الخراب والفساد. المسؤولية ثقيلة وصعبة، لكنه عنادي وقويّ الشخصية، ويصل إلى مبتغاه مهما كلفه الأمر. ولا ننسى أن الوزير السابق مهدي مبروك حقق أشياء إيجابية مهمّة، وعمل بجدّ في ظل ظروف قاسية جدا، ونأمل من الصقلي أن يواصل المشوار. وهذا لا يمكن أن يتم طبعا مع أناس يسهرون الليل ويفيقون ظهرا.