حاورته فائزة الناصر
الخروج من الحكم ليس كارثة ولا مصيبة كما يعتقد المهوسون بالسلطة و”أبناء النهضة لم يكونوا يوما طلاب كراسي، ولا يعانون عقدة السلطة، ويكفينا شرفا ترسيخ المعنى الحقيقي للتداول السلمي على السلطة في تونس بعد حقبة الدكتاتورية والاستبداد والتفرد بالحكم”. نحن دخلنا السلطة مناضلين شرفاء، وخرجنا منها مناضلين واثقين لا صاغرين”. هذا أهمّ ما أكّده لنا رئيس الحكومة السابق، والقيادي في حركة النهضة المهندس علي العريّض في أوّل حديث صحفي له بعد مغادرته القصبة.
سنتان من الحكم ماذا أضافت لعلي العريض؟
هذه التجربة أضافت إليّ الكثير؛ لأنها جاءت في فترة تستدعي الوعي بمتطلبات البلاد وبالمحيط الإقليمي الذي ننتمي إليه، كما أضافت إليّ الوعي والإلمام بحاجيات الناس وطموحاتهم واحتياجاتهم وبواقع البلاد الاقتصادي والمالي والاجتماعي والتنموي وبحجم التحديات التي تواجهها بلادنا، وكشفت لي حجم الانتهاكات التي ارتكبت في حقّ أجيال وفي حق جهات وفي حق فئات. تستطيعين أن تقولي إنّ هذه التجربة مكنتني من استيعاب وفهم جيد للواقع ولحجم التحديّات الداخلية والدولية، وكيف أتعاطى مع قضايا وطن بأكمله في فترة صعبة ومعقدة وكيف أعالجها. تعلمّت في هذه التجربة كيف أفصل عباءة الحزب عن عباءة الدولة، وكيف يستطيع المسؤول السياسي أن يتحرّر من كل الاعتبارات والميولات الشخصية والحزبية والفئوية، وأن يكون في خدمة كلّ التونسيين في الداخل والخارج في الشمال والجنوب على اختلاف انتماءاتهم الحزبية والإيديولوجية، وكيف يعلي مصلحة البلاد العليا على كل الاعتبارات. علمتني أننا كلّما انفتحنا على الناس أكثر ووثقنا بهم أكثر، كان أداؤهم أفضل وعطاؤهم أجزل.
وفي المقابل ماذا أخذت منك؟
تجربة الحكم أخذت مني الصّحة والراحة، أخذت مني الحريّة التي طالما حلمت بأن أتمتع بها وأعيشها بعد سنوات السجن الطويلة والمريرة، وبعد المضايقات وكتم الأنفاس، فلم يسعفني الوقت لأتمتع بهذه الحرية الغالية التي حرمت منها. تجرية الحكم حرمتني من أحب الأشياء إلى نفسي، وهي المطالعة التي لم تكن تفارقني يوما، فلم أكن أجد الوقت حتى لأقرأ بعض السطور، كما حرمتني من دفء العائلة والقرب منها ومن مشاغلها اليومية ومن حقوقها عليّ.
هل خامرتك يوما فكرة الندم على خوض هذه التجربة؟
مطلقا، لا يمكن أن أندم على واجب سعيت لأن أقدّمه بكل أمانة وإخلاص، ولن أندم على جهد قدمته إلى وطن أدين له بالكثير، ولن أتحسّر على أوقات وهبتها لمن يستحق، وأرجو شعبي أن يعذرني فيما قصرت.
يتحدث بعض خصومكم في جميع منابرهم واجتماعاتهم ولقاءاتهم عن خروج صاغر ذليل للنهضة رضوخا لرغبتهم ودعواتهم لإسقاطها، ما تعليقك؟
الذي أخرجنا هو حبّ تونس ومصلحتها العليا، الذي أخرجنا هو حرصنا على نجاح التجربة الديمقراطية، الذي أخرجنا هو زهدنا في الحكم وثقتنا في أنّ مجال الفعل والإنجاز والعطاء لا يقتصر على السلطة كما يعتقد بعض المهووسين بها، أخرجنا إيماننا بأنّ السلطة في الديمقراطيات تداول، ولو دامت لبورقيبة وبن علي ما آلت إلينا، ولو دامت لنا لن تؤول إلى غيرنا. أخرجنا تقديرنا أن استمرار وضع التآكل والاستقطاب والتناحر أدّى وسيؤدّي إلى مزيد من الإضرار بمصالح البلاد وإطالة المرحلة الانتقاليّة وتوفير مناخ مضادّ للاستقرار والاستثمار والإعمار، وكانت ضريبة الوصول إلى إنهاء الدستور ووضع البلاد على الوضوح، والاتجاه نحو الانتخابات وإشاعة مناخ من الراحة والهدوء ومزيد من الأمل داخلها وخارجها، أن نخرج من الحكومة وندعم حكومة مستقلّة.
نحن لم ندخل هذه الحكومة غصبا ولا كرها ولا تزكية من صحف صفراء ولا رأس مال فاسد ولا جهات مشبوهة، نحن دخلنا الحكومة من ساحات النضال، دخلناها مناضلين ونخرج منها مناضلين واثقين لا صاغرين. والخروج من الحكم بالنسبة لنا ليس كارثة ولا مصيبة كما يعرف المؤمنون بالديمقراطية وبالمعنى الحقيقي للتداول السلمي على السلطة الذي كان لنا شرف ترسيخه في تونس بعد حقبة الدكتاتورية والاستبداد والتفرد بالحكم. المهم بالنسبة لنا ليس فيمن تؤول إليه السلطة علمانيا كان أم إسلاميا أم حتى شيوعيا، بل المهمّ أن تكون هناك مبادئ راسخة وثابتة لا يحيد عنها من يحكم، وهي مبادئ الديمقراطية واحترام حقوق الأفراد وعدم المساس بالحريات العامة والخاصّة.
بعض القوى الثورية تعتبر أنّ عنوان الفشل في حكومات ما بعد الثورة هو التطبيع مع الدولة العميقة وعدم مقاومة الفساد ومحاسبة الفاسدين؟
أحترم كلّ الآراء والتقييمات والانتقادات مهما علت وتيرتها، ولكن أوضح لك مسألة، الحكومات المتعاقبة بعد الثورة، ونعني بها حكومة السيد الباجي قايد السبسي التي استمرت عشرة أشهر، وحكومة السيد حمادي الجبالي التي استمرت سنة وأربعة أشهر، ثم الحكومة التي ترأستها والتي اشتغلت مدة عشرة أشهر ونصف، هذه الحكومات الثلاثة كان أمامها أربعة تحديات، الفارق بينها الترتيب من حيث الأولوية ومن حيث الحاجة والضرورة، التحدي الأوّل: هو تكريس الديمقراطية والنجاح في الانتقال الديمقراطي، والثاني: هو مقاومة الفساد والجريمة والتصدّي للإرهاب وضمان الأمن والاستقرار في البلاد، والثالث: هو إجراء إصلاحات اقتصادية وحلول اجتماعية للقضايا الملحة، والرابع: هو السعي إلى معالجة أوضاع ضحايا الأنظمة السابقة وإرساء مشروع للعدالة الانتقالية ومقاومة الفساد.
بالنسبة للنقطة الرابعة أنت تسألين ماذا حققنا فيها، يمكن القول دون مبالغة إنّ بلادنا تقدمت شوطا كبيرا في هذا الباب، فقد سوّي موضوع الشهداء والجرحى، ويكاد يسوّى نهائيا باب جبر ضرر ضحايا العهد البائد، من خلال تفعيل مرسوم العفو التشريعي العام، وبالنسبة للأموال المهرّبة فقد نجحنا في استرجاع جزء منها، كما كشفنا النقاب عن الكثير من قضايا الفساد وأحلناها على القضاء. وعلى القوى المؤمنة بالثورة والغيورة على استحقاقاتها أن تدرك جيدا أنّ هناك مسائل لا بدّ أن تؤخذ بعين الاعتبار، عليها أن تتفهّم بداية أنّ الشرعية الثورية في ظل دولة يحكمها القانون والمؤسسات لا تستطيع أن تخرق القانون وتحكم بأحكامها مهما كانت عادلة وصائبة، ثانيا: في ظل دولة ديمقراطية وهيئات منتخبة هناك قوانين وإجراءات لا بدّ أن تتبّع وتُحترم، ثالثا: هذه الحكومات ليس لها صلاحيات مطلقة تخوّل لها سرعة القرار والتنفيذ، بل على العكس هي حكومات مهامّها محدّدة ومضبوطة ومقيّدة.
ما تحقّق إلى الآن في مسار المحاسبة مهمّ، ومع ذلك أنا أتفهّم عدم رضا جزء كبير من شباب الثورة، نحن لم نطبّع يوما مع قوى الردّة والفساد، ولم نفتح أبوابنا لهم، ونحن أكثر الناس حرصا على إرساء العدالة الانتقالية حتى يحاسَب كلّ من أجرم في حقّ هذا الوطن ويُجبر الضرر ويُفتح باب المصالحة مع كلّ من اعتذر وجاهر بتوبته وردّ الحقوق إلى أصحابها، وآمل أن يتفهّم الجميع أنّ هذا المسار طويل وشاق ومعقّد، ويحتاج إلى الصبر والثبات.
هل تعتقد أنه كان بإمكانكم المحاسبة ومقاومة الفاسدين في ظلّ وجود جزء من الإعلاميين والقضاة يتحصّن بهما الفاسدون وقوى الثورة المضادّة؟
أوافقك الرأي أنّ هذين القطاعين يعانيان من مخلّفات الاستبداد؛ فالإعلام لا زال أمامه شوط طويل لتجاوز الهنات وحلّ مشاكله والارتقاء بأدائه إلى مستوى اللحظة التي نعيشها وما تتطلبه، والشيء ذاته ينسحب على القضاء وغيره، ومع ذلك فأنا أؤمن أنّه ليس من حقّ أيّ جهة من خارج هياكل القطاعين ومن خارج آلية العدالة الانتقالية ـ ولو كانت الحكومة ـ أن تتدخل في شأن مرفقي القضاء والإعلام لأيّ مبرّر كان – حتى لو كان التطهير- لتفرض وصايتها عليهما أو لتحدّ من استقلاليتهما. واجبنا نحن كسلطة تنفيذية بدرجة أولى هو توفير وتأمين مناخات الحرية والاستقلالية لهذين المرفقين، وأحسب أنْ لا أحد اليوم يجرؤ على أن ينكر ما يتمتّع به قطاعي القضاء والإعلام من حريّة واستقلالية. وفي تقديري هما يتدرجان شيئا فشيئا نحو ترتيب البيت الداخلي على أساس المهنية والاستقلالية.
سألتك سيّدي عن خطر وجود بؤر فساد من قوى الثورة المضادة داخل هذين القطاعين على نجاح المسار الانتقالي وعلى التجربة الديمقراطية الغضّة؟
أوافقك الرأي بأنّ قطاعي القضاء والإعلام هما أساسا كلّ دولة ديمقراطية، وأساسا نجاح أو فشل كل ثورة، ولكن قوى الردّة داخل هذه القطاعات ربما نجحت في إرباك المشهد العام وتشويشه إلى حدّ معيّن، ولكنها لم تنجح أبدا في إجهاض الثورة أو إفشالها. وعلينا أن ندرك أنّ هذه القطاعات وغيرها إذا نخرها الفساد وتأصّلت فيها المساوئ فمواجهتها ومعالجتها لا تتمّ بظاهر القول ولا عن طريق ترديد الشعارات ودعوات التطهير ومواجهة “إعلام العار” و”القضاء الفاسد” ولا عبر حملات السبّ والقذف، وإنّما تعالج تدريجيا وبطريقة حكيمة وموزونة، دون عجلة لتحصل نتيجة إيجابية، ولا بدّ في المقابل من أن نعطى فرصة لأهل القطاع بتطهير أنفسهم بأنفسهم، وأن نسمح لأوسع طائفة من هؤلاء لينخرطوا في مسار الثورة باعتبار أنّ القضاة أو الإعلاميين ليسوا كلّهم فاسدين، وليسوا كلهم جزءا من جوقة النظام البائد. وأدعوك أن تعودي فقط إلى تجارب الثورات التي عاشتها دول أوروبا الشرقية في أواخر الثمانيات وأوائل التسعينات، وانظري كم استغرقوا من وقت ليصبح لديهم إعلام تعددي ومحايد وموضوعي، وكم استغرقوا من وقت لإصلاح قضائهم وإصلاح إدارتهم، فسترين أنهم يتحدثون اليوم عن المعجزة التونسية التي نجحت رغم كلّ الهنات والصعوبات والهزات ـ في وقت قياسي ـ في تأمين التجربة الديمقراطية من خطر قوى الردّة ولوبيات الثورة المضادة.
هل تعتقد أنّ ما قدمتموه من إجراءات على مستوى التنمية والعدالة الاجتماعية ارتقى إلى مستوى انتظارات المحرومين والمُهمشين؟
أنا على يقين أنّ التاريخ سيشهد يوما على ما أنجزته وما قدمته حركة النهضة وشركاؤها عندما كانوا في الحكم لإنجاح هذه التجربة ولإنقاذ الاقتصاد الجريح من التهاوي، وسينصفها الزمن عاجلا أم آجلا. حتّى يكون تقييم ما أنجزناه موضوعيا لا بدّ أن نأخذ بعين الاعتبار ما أنجز مقارنة بما طلب منا، ثمّ الظروف الموضوعية والمادية التي عملنا فيها وانعكاسات الوضع الداخلي والخارجي علينا.
من المنظور الاستراتيجي الاجتماعي يمكن القول ـ بلا تردّد ـ إننا نجحنا إلى حدّ كبير في إنشاء مشروع حضاري يقوم على مقاومة الاستبداد وبناء دولة حديثة وديمقراطية تضمن الحقوق لكلّ الناس، وتضمن المساواة بين الجميع، وتضمن استرجاع تونس لمكانتها في المنطقة وفي العالم، كدولة عربية مسلمة قادرة على أن تنجح النموذج الديمقراطي.
مع الصعوبات الاقتصادية التي كانت تعيشها البلاد، إلى جانب حالة الانهيار القيمي والأخلاقي والسياسي بسبب استشراء حالة الانفلات واتساع دائرة الفساد والتهريب والاحتكار حتى وصلت نسبة النموّ في عهد حكومة السيد الباجي قايد السبسي إلى أدنى من 2 بالمائة سلبي، وتدهور مخزون الدولة من العملة الصعبة، وأصبح الوضع الاقتصادي شبه مشلول، ومع تعقّد الوضع الأمني الذي كان يعيش حالة من الانفلات التام بما في ذلك أحداث العنف وحرق المراكز والبنوك والمنشآت العامة والخاصة إلى درجة أنّ الدولة كانت مهددة بالتفكك والانهيار، فقد نجحت هذه الحكومة في خلق تطوّر إيجابي في كلّ المؤشرات، من خلال النجاح في الوصول إلى نسبة نموّ تفوق 3 بالمائة سنة 2012، ومن خلال استعادة الاقتصاد جزءا مهمّا من عافيته بعودة المؤسسات الكبرى إلى سالف نشاطها، وعودة الاستثمار الداخلي والخارجي تدريجيا. كما نجحت في توفير حاجيات الناس على عدّة مستويات؛ منها الترفيع في الأجور في كثير من القطاعات، وهو ما مكّن المواطن التونسي من حياة كريمة، ومضاعفة ميزانية التصرّف، والميزانية المخصّصة لموظّفي الدولة. كما سخرت الدولة للمرة الأولى منذ الاستقلال وفي ظلّ أزمة اقتصاديّة خانقة وظروف إقليمية ودولية معقّدة، مبلغ 12 ألف مليون دينار على سنتي 2012-2013 للتنمية، حتى أن نسب ما تحقّق خلال السنتين الماضيتين في المشاريع المبرمجة في البنى الأساسية والمستشفيات والمياه الصالحة للشراب وبناء المساكن الاجتماعيّة وتعبيد الطرقات، وبناء المناطق الصناعية، تجاوز 4 مرّات نسب ما تحقّق في العشر سنوات الأخيرة من فترة حكم بن علي.
هل يمكن لرئيس الحكومة بعد مغادرة القصبة أن يكشف للتونسيين حجم العراقيل التي وضعت أمامه لإفشال فترة حكم الترويكا؟
أهم صعوبة اعترضتنا كانت الموازنة بين تلبية متطلبات التشغيل والتنميّة الجهويّة من جهة، ومراعاة ميزانيّة الدولة من جهة أخرى، وهو ما اضطرّنا في كثير من الأحيان إلى مضاعفة ميزانيّة التصرّف وإثقال كاهل البلاد بمصاريف لا تقدر على توفيرها، فأدّى ذلك إلى ارتفاع نسبة العجز في الميزانيّة، وإلى بعض التقييمات السلبية للاقتصاد التونسية من طرف بعض المؤسّسات المختصّة في التقييم الاقتصادي.
ثانيا: عدم توفّر العدد الكافي من المؤسّسات والمقاولات القادرة على إنجاز المشاريع الكبرى، مثل مشروع إنجاز مئات الآبار الارتوازية التي ستقدّم حلولا جذرية لمشكلة المياه الصالحة للشراب، ولمشاكل المناطق السقويّة، وقس على ذلك مشاريع تعبيد الطرقات، إلى جانب الندرة في اليد العاملة، وهي مشكلة مؤرّقة اعترضتنا خلال تفعيل هذه المشاريع، بسبب معضلة الحضائر التي أصابت النهضة الاقتصادية في مقتل، وكانت على حساب المشاريع التنموية وعلى حساب توفير حاجيات المقاولات في البناء.
ثالثا: وجدنا أنفسنا محاصرين بترسانة من القوانين البالية والجامدة التي وقع إصدارها بعد الثورة في شكل مراسيم، وكانت دون مستوى التطلعات والانتظارات، وشكّلت عنصرا مكبّلا حال دون تحقيق ما هو مطلوب من مشاريع تنموية وطنية وجهوية ومحلية، وقد كنا بحاجة إلى قوانين ثورية تتماشى مع هذه اللحظة، وتيسّر تمرير هذه المنجزات دون تعطيلات.
لاحظنا زيارات لمسؤولين من البيت الأبيض رفيعي المستوى ودعوة رئيس الحكومة الجديد لزيارة أمريكا، وهو ما لم نشهده خلال فترة حكمكم، فهل كانت حكومتكم تدفع ضريبة توجّس دوائر القرار الغربي من وجود إسلاميين في الحكم؟
مع تعديل بسيط في المعلومة التي أوردتها، لقد زارت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون تونس خلال فترة حكم الأخ حمادي الجبالي، كما أدّى الدكتور رفيق عبد السلام وزير الخارجية الأسبق وكذلك السيد عثمان الجرندي أكثر من زيارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت لي شخصيا أكثر من محادثة هاتفية مع كبار المسؤولين بالبيت الأبيض. ولكن ما أخّر زيارتي إلى الولايات المتحدة التي كانت بصدد الترتيب لها هو ما مررنا به بداية من اغتيال الشهيد محمد البراهمي رحمه الله، فمنذ ذلك التاريخ دخلت بلادنا في حالة غموض وأزمات واحتقان، وهو ما جعل العديد من الدول في حالة ترقّب لما ستؤول إليه الأوضاع في البلاد. ولما انطلقنا في الحوار الوطني واتفقنا منذ البداية على التوافق على حكومة جديدة قررت عديد من الدول ترقّب الحكومة الجديدة.
أما في خصوص ما أشرت إليه من تردّد بعض الدول الغربية في التعامل مع حكومة ترأسها حركة إسلامية، ففيه الكثير من الوجاهة؛ فحجم الشبهات والأراجيف والأباطيل التي وقع ضخّها طوال تاريخ حركة النهضة من معاداتها للديمقراطية ولحقوق المرأة وللحريات الخاصة والعامة، جعل الدوائر الغربية تستغرق وقتا لتعدّل موقفها من هذه الحركة الإسلامية. وبالفعل تجربة الحكم التي خاضتها حركة النهضة أسقطت كلّ الشبهات والأراجيف الواحدة تلو الآخرى، وتأكد الرأي العام في الداخل والخارج أن هذه الحركة الإسلامية تكرّس نهج الديمقراطية، وتدفع الغالي والنفيس من أجل حماية هذا المسار، كما تأكدت أنّها متمسكة بحقوق المرأة وبتطوير موقعها وفعلها في المجتمع، وأنها متصالحة مع قيم الحداثة وحقوق الإنسان والحريات، كما تبيّن أنّ شبهة السعي إلى أسلمة المجتمع أو فرض نمط معين للتدين فرية كبرى؛ لأنها بدت أكثر الأطراف حرصا على حرية المعتقد وحرية التدين، كما أسقطت أيضا شبهة أن هذه الحركة التي نُكّل بها وتعرضت إلى أبشع أنواع التعذيب والاضطهاد جاءت للثأر والانتقام، لمّا تبيّن أنّها من أكثر الحركات تسامحا وتصالحا مع الأطراف الوطنية، وأشدّ انفتاحا على الداخل والخارج.
أصبحت الصناديق الدولية تغدق الأموال على تونس بسخاء، وشهد الدينار التونسي ارتفاعا، ومؤشرات البورصة تحسنا ملحوظا، واقتربت الأسعار من الاستقرار، وبدت انتعاشة في السياحة، وكما يقول البعض: “أصبح الطقس جميل والعصافير تزقزق” في أقلّ من أسبوعين من رحيلكم. ما تعليقك؟
هذا الكلام على طرافته فيه جانب من الصحّة، وفيه جانب كبير من المبالغة، صحيح أنّ وضوح الرؤية السياسية بالمصادقة على الدستور بإجماع واسع، وتشكل هيئة مستقلة للانتخابات، والتوافق على الآجال القصوى للانتخابات، وتقلّص حجم الاحتقان وانفراج المشهد العام، من شأنه أن يخلق مناخات إيجابية للإنجاز وللعمل وللاستثمار وللنجاح.
أمّا الجانب الذي فيه الكثير من المبالغة، فهو الحديث عن وجود تغيير جذري في الوضع الاقتصادي وفي المؤشرات الاقتصادية أو في حجم المساعدات، وكلّ هذا يدخل في باب المزايدات لا غير. هناك فرص حقيقيّة لتحسّن الوضع الاقتصادي في البلاد لو توفرت بعض العوامل، ومن أبرزها توحّد التونسيين وتوافقهم ومراعاة إمكانات البلاد، والكفّ عن الإضرابات العشوائية، والانصراف إلى العمل وعدم تحويل أنظار الدولة إلى قضايا هامشية.
يرفع خصومكم شعار إعادة تحييد الإدارة، ويتهمونكم بأنكم عيّنتم المئات من أنصاركم في مناصب مختلفة في الإدارة التونسية؟
من بركات حريّة التعبير أنّ أيّا كان يمكنه أن يتّهم من يريد بما يشاء، ولا أجد أيّ حرج في التعاطي مع هذه التهم، ودعيني أصحّح بداية بعض المغالطات، أنا لا أفهم حقيقة ما معنى إعادة تحييد الإدارة، ومتى كانت الإدارة التونسية محايدة، وكلنا يعلم الأساليب التي كانت تُعتمد في التعيينات.
ثانيا: إن كانوا يقصدون بالحياد أن تكون تعييناتنا محايدة في علاقتها بالثورة، فنحن لم نعيّن أحدا محايدا، أمّا إن كانوا يقصدون أنّ علي العريض وحكومته كانوا يطلبون بطاقة انخراط في حركة النهضة قبل التعيين، فهذا من الأراجيف المضحكة التي أتمنى صدقا أن يكفّ عنها مروّجوها. وأمّا إن كان ما يرمون إليه هو أن نحاكم كلّ كفاءة فقط لأنها تلتقي مع هذا الحزب أو ذاك، فلن تكون هناك إدارة تونسية أصلا، وأما إن كان غايتهم أن يكون تقييم الكفاءات على أساس الانتماء الحزبي، فهذا ضيم لن ننخرط فيه، فحرماننا كلّ من له توجّه سياسي من أن يتقلّد مسؤولّية ما ظلم ومخالفة للدستور ولحقوق الإنسان ولكلّ الأعراف الدولية، وبدعة لم نسمع بها.
أما إن كان المطلوب هو أن يخلع كلّ مسؤول عند ممارسة مهامّه عباءة حزبه ويرتدي عباءة الوطن والمسؤولية الوطنية ويعامل المواطنين على قدم المساواة ويدرك أنه يقوم بوظيفة اجتماعية للدولة والمجتمع عامة، فنحن نتّفق تماما مع هذا الرأي وندعمه. وإن كان هناك ضرورة لمراجعة التعيينات، وهذا وارد طبعا في كل الأوقات، فلتكن بناء على الكفاءة من عدمها، لا بناء على اللون الحزبي. لا بدّ أن ننبه في الأخير إلى أنّ بعض المسؤوليات والمناصب يكون فيها عدم الانتماء الحزبي أو التخلّي عن المسؤوليات الحزبية شرطا ضروريا لممارسة المهامّ، مثل رئيس الجمهوريّة أو الولاة والمعتمدين.
ألم يحن الوقت كي تخوض حركة النهضة تجربة الفصل بين الدعوي والسياسي، خاصّة أن البعض يرى أن تخلّي الحركة عن دورها الدعوي فتح الباب أمام انتشار الفكر المتطرّف والإرهاب؟
لست متفقا تماما مع هذا الطرح، ففي الدولة الديمقراطيّة للأحزاب دور سياسي واقتصادي واجتماعي، إضافة إلى الدور الثقافي المهم الذي يلبّي حاجة الشعب إلى الثقافة، ويرتقي بوعيه وذوقه وأخلاقه وتصوّراته، وفي هذا الإطار يمكن أن تندرج عديد من الأعمال الفنيّة والأعمال الإصلاحية والأعمال الإرشاديّة في مجال الدين والأعمال الخيريّة الاجتماعيّة. مشروع حركة النهضة يتّجه إلى المجتمع لا إلى السلطة، يريد أن يساعد الفرد على الارتقاء والتطوّر المعنوي والمادي، ويعالج القضايا الاجتماعيّة، ويريد للأسرة أن تكون مترابطة ومستقرّة، ويريد لمختلف مكوّنات المجتمع أن يصلح حالها، وحتّى السلطة هي أداة لخدمة المجتمع في كلّ أوجه احتياجاته.
أمّا وقد توفّرت الحريّة والأطر المختلفة لمخاطبة الشعب من خلال الإعلام والاجتماعات العامّة وكلّ الوسائل المتاحة، فالعمل السياسي له مجاله، ومن يريد العمل بالفنون وبالثقافة فالمجال عريض ولا يجد إلاّ التشجيع، والذين يريدون الرقيّ بالمجتمع في تديّنه عبر نشر الإسلام الوسطي وقيمه وتعاليمه وآدابه وتصوّراته من خلال المساجد والمجلات والدروس والمحاضرات، فالمجال مفتوح أمامهم، وحركة النهضة تؤمن بهذه المساحة العريضة من التصرّف، وكل عنصر في المجتمع يكمّل الآخر، وهذه الحكمة من التنوّع؛ فهناك مثلا حزب يركّز على البعد العربي، وتجد آخر يركّز على الأسرة، وآخر على العدالة الاجتماعيّة … إلى غير ذلك من الاهتمامات. لذلك أنا لا أرى ما يدعو إلى تحميل حركة النهضة فقط هذه المسؤوليّة، فالنهضة ليست الوحيدة المؤتمنة على الإسلام، ولا ناطقة باسمه، وليس لها أن تحتكر مجال الفعل فيه. والمطلوب من دعاتنا التونسيّين والأئمة والأساتذة ورجال الدعوة والتربية أن يقدّموا غذاء روحيّا مناسبا للشعب التونسي، وخاصة فئة الشباب، فإذا ما ركّزنا على هذا العمل مع وجود هامش الحريّة الكبير ودور الإعلام والتربية والثقافة، فسوف نحاصر فكر الشطط والمغالاة.
ما قصة هذه الصفقات التي نسمع بها بين الحين والآخر والتي تعقدها حركة النهضة تارة مع النداء، وتارة مع الجمهوري، وتارة أخرى مع الجبهة الدستورية؟
لا وجود لأيّ صفقات مع أيّ كان، وحركة النهضة لم تعقد في تاريخها أيّة صفقة لا تحت الطاولة ولا فوق الطاولة، الصفقة الوحيدة التي عقدتها حركة النهضة كانت مع الثورة والولاء لاستحقاقات الثورة وأهدافها وعلى إنجاح نموذج ديمقراطي وعلى تكريس الحقوق والحريات. النهضة منفتحة على جميع القوى الوطنية التي تؤمن بالديمقراطية، ولا تقايض عليها، وهي مستعدة للحوار والتنسيق مع كلّ من يحمل همّ إنجاح مسار الانتقال الديمقراطي التونسي ودعم مؤسسات الدولة لتكون مؤسسات وطنية، واحترام الحقوق والحريّات وتكريس العدالة الاجتماعيّة.
هل هناك إمكانيّة لاستمرار تجربة الترويكا؟
علاقات مكونات الترويكا لا تزال جيّدة بمقتضى ما أنجزته خلال هذه السنوات، وأعتبرها من أثرى التجارب على الساحة العربيّة، وهي التي حفظت البلاد من المنزلقات والفوضى ومن التراجع إلى الوراء، علاقتنا لا تزال جيّدة مع المؤتمر والتكتّل، وقد تختلف مواقفنا في قضايا معيّنة، وهذا طبيعي جدّا، ولكننا نتعاون في مسائل أخرى، وما زلنا نشعر بمسؤوليّة كبيرة في إنجاح ما تبقّى من هذا المسار حتى تفرز الانتخابات هيئات جديدة قارّة.
تخوض تونس منذ أشهر حربا ضدّ الإرهاب، فهل تقدر أننا حققنا خطوات على درب الانتصار في هذه المعركة؟
الحكومات المتعاقبة خاضت هذه المعركة بأدواتها الضروريّة وفي إطار احترام القانون، وكلّما تقدّمنا، نجحنا في محاصرة هذه النتوءات وهذا الأذى، وقد قدّمت المؤسسات الأمنية والعسكريّة التضحيات الجسمية ولم تدخّر جهدا في مقاومة هذه الظاهرة الخطيرة وملاحقتها وتجفيف منابعها، كما ازداد مجتمعنا وعيا بخطورة هذه المسائل وبأهميّة الوحدة لمكافحتها، وأحسب أن كلّ التونسيّين مصرّين على الانتصار في هذه المعركة التي زادتهم وحدة وتضامنا. ومن ضمانات الانتصار في هذه المعركة النأي بها عن التوظيف والمناكفات السياسيّة.
من خلال لقاءاتك الأخيرة بقواعد الحركة وأنصارها لا زال السواد الأعظم منهم ينظر إليك كرجل دولة لا كقيادي في حركة ؟
على كلّ حال أحترم كثيرا هذا الانطباع، وأعتبره مسؤولية جسيمة ملقاة على عاتقي، ولكن تأكدّي أنّ جلّ قيادات حركة النهضة وأبنائها مشاريع رجال دولة، فمشاغلنا اليوم ترتقي فوق الحسابات الحزبية الضيّقة، فكلنا مهمومون بقضايا تونس وبمسؤولياتنا تجاهها، وهاجسنا يتجاوز بكثير الدعاية الحزبية والهوس بتوسيع قاعدة حركة النهضة شعبيا وتحسين تنظيمها، ونعتبر أنّ هذه القضايا عرضيّة، وما يشغلنا اليوم هو كيفية إنجاح مسار الانتقال الديمقراطي باعتباره منعرجا تاريخيّا، وكيف نبني الحريّة ونكرّسها حتى لا ننتكس نحو الاستبداد والفوضى، وكيف نحفظ تونس من الإرهاب.
خلّف مشهد عناقك لمعلمك خلال زيارتك لولاية قفصة صدى كبيرا على مواقع التواصل الاجتماعي، ما الذي أثاره بداخلك هذا اللقاء؟
هذا المعلّم درّسني في السنة الأولى والثانية والثالثة من التعليم الابتدائي، مرّت الآن حوالي 40 سنة لم ألتق فيها بهذا المربّي الذي علّمني وربّاني، وأدين له كما أدين لكل الذين علّموني حرفا، وأشعر بالامتنان تجاه كل من علّمني.
فوجئت بوجوده خلال هذا الاجتماع الشعبي، وتملّكتني حينها مشاعر مفعمة بالحنين إلى الماضي وإلى طفولتي وإلى مدرستي وإلى معلمي، وفي لحظة مرّ شريط حياتي أمامي بحلوه ومرّه في سرعة البرق، كانت لحظة مليئة بالذكريات، ودون تردّد ناديته “سيدي” كما كنت أردّدها قبل 40 سنة.
فقد بصره بعد تعرضه لاعتداء من أمني: محكمة الاستئناف بالقيروان تؤكد إيقاف التلميذ بتهمة محاولة القتل
قال رياض بن حليمة الناطق باسم محكمة الاستئناف بالقيروان اليوم الخميس 1 جوان 2023 على ما تم تداوله في مواقع...
قراءة المزيد