محمد فوراتي
تشهد العلاقة بين المحامين والقضاة منذ مدّة توترا بدأ يكبر ككرة الثلج حتى وصل إلى حدّ الصدام في الأسبوع الماضي عندما أوقف قاضي التحقيق بالمكتب الخامس بالمحكمة الابتدائية بتونس وبموجب بطاقة إيداع بالسجن محامية بتهمة التحيّل. وكان يوم الجمعة الماضي يوما طويلا وغير مسبوق في تاريخ القضاء التونسي؛ فقد اعتصم عشرات المحاميات والمحامين مطالبين بإطلاق سراح زميلتهم، محاولين إجبار القاضي على إطلاق سراح المحامية، وصاحب ذلك تشنج كبير بين الطرفين، وهو ما سماه بعض القضاة بالاعتداء على زميل لهم وإهانة القضاء، والاعتماد على القوة والحشد والصراخ وتعطيل المرفق القضائي، بعيدا عن القانون، والطرق القانونية المعتمدة.
الهيئة الوطنية للمحامين بدورها حمّلت قاضي التحقيق ومن ورائه جهات قضائية مسؤولية التوتّر الجاري بين أكبر قطاعين في مرفق القضاء، وقال عدد من المحامين إن هناك حملة تستهدف المحامين، وإن أكثر من 800 بطاقة إيداع سجلت ضدّ محامين في عدد من محاكم الجمهورية، وإن قاضي التحقيق لم يتبع الإجراءات المعمول بها خلال إيقاف المحامية.
كما أكدت الهيئة أنه لم يقع إعلام الفرع الجهوي للمحامين من قبل الوكيل العام لمحكمة الاستئناف بتونس وفقا لمقتضيات الفصل 46 من المرسوم المنظم لمهنة المحاماة الذي ينصّ على أنه «إذا وقعت تتبّعات ضدّ محام يتم إعلام رئيس الرفع الجهوي المختصّ بذلك حينها، ويُحال المحامي وجوبا من طرف الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف على قاضي التحقيق الذي يتولّى بحثه بخصوص التتبّع بحضور رئيس الفرع المختصّ أو من ينوبه للغرض».
وقد تمّت إحالة خمسة محامين على مكتب قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بتونس وأكثر من 10 من كتبة المحامين، وذلك على خلفية الأحداث التي شهدتها المحكمة الأسبوع الماضي إثر إصدار قاضي تحقيق بطاقة إيداع ضدّ محامية بتهمة التحيّل. ويشمل قرار الإحالة كلّ من المحامين: مهدي زرقوبة وأحمد كعيلان وعروسي سقير وآسيا الحاج سالم وكلثوم الزاوي.
وقد بلغ التوتر مبلغه بعد هذه الإحالة والتصريحات والاتهامات المتبادلة بالدعوة إلى عقد اجتماع عام بقصر العدالة بتونس بإشراف هيئة المحامين لاتخاذ إجراءات تصعيدية ربما تشمل الإضراب والاعتصام المفتوح في المحكمة. فيما واصل القضاة جمعية ونقابة تنفيذ إضراب تلو الإضراب منذ الجمعة الماضية، وتعطلت مصالح المواطنين، وتشهد مختلف المحاكم توتّرا متزايدا وتراشقا بالتهم بين القطاعين، زادتها بعض الأطراف من هنا ومن هناك حدّة ببعض التصريحات المتشجنة. وهكذا نكون قد دخلنا ما يشبه معركة كسر العظم بين القضاة والمحامين، ودوامة من الإضرابات والإضرابات المضادة التي لا نعرف كيف ستنتهي؟
إن خطورة هذه الأزمة تتجاوز المحامين والقضاة؛ لأنها تكشف عن مشكلة ثقة بين مختلف القطاعات في المجتمع، ونوع من الانفلات وعدم الالتزام بالضوابط القانونية والأخلاقية في التعامل بين أبناء المجتمع الواحد. كما أنها أزمة تنعكس بشكل كارثي على المتقاضين، وتعطل مصالحهم، وتضرب إسفينا بين قطاعين، يصعب نزعه، وهما قطاع واحد في الحقيقة، طالما ساهم بعض رموزه في النضال من أجل الديمقراطية وإسقاط نظام الاستبداد، فمن سيكون مُستفيدا من هذه الأزمة غير أعداء تونس؟ ومن سيستفيد من هذه الأزمة غير الباحثين عن توتير الأجواء وإرساء مناخ من الفوضى يتيح تطبيق أجندات هدفها إفشال المسار الديمقراطي والعودة إلى منظومة الاستبداد؟
الغريب في الأمر أن هذه الأزمة بين القضاة والمحامين، ورغم خطورتها، تعاملت معها عديد الأطراف من منطق الفرجة، وبشكل سلبي. وفي مُقدمة هذه الأطراف الحكومة، وخاصة وزارة العدل، وليس بعيدا عن ذلك أيضا الأحزاب والمجتمع المدني، كما لم نشهد محاولات للوساطة ودرء الفتنة من قدماء المهنة أو من بقية منظمات المجتمع المدني، بل إنّ الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان أصدرت بيانا غبيا ساندت فيه قطاعا دون آخر، ولم تلتزم الحياد، ولا سعت إلى الوساطة، وحلّ الإشكالات العالقة بشكل ودّي يطفئ لهيب الأزمة ولا يشعلها، رغم أنها منظمة حقوقية وطنية يجب أن تأخذ مسافة من الجميع.
إنّ استفحال هذه الأزمة وتواصلها خلال الأيام القادمة دون مصالحة حقيقية بين جناحي العدالة، ينبئ بما هو أسوأ، ويفتح الباب أمام فوضى أكبر، كما يفتح الباب أمام أجندات خطيرة ستجد في إضعاف مرفق القضاء وسيلة لتحقيق غايات سياسوية، ولذلك على كل العقلاء والجهات الرسمية والمنظمات الاجتماعية التدخل لإطفاء حريق الفتنة وغلق الملف، وهذا ممكن إذا توفرت النية الحسنة، والوعي بخطورة اللعب بهذا القطاع أو دفعه إلى الفوضى وردود الفعل المجنونة وغير المحسوبة.