1 – السياسة والقيم
علاقات العمل السياسي المشترك هي من أعقد أنواع الإرتباط حتى وإن كان المنتظمون تحت عنوان حزبي ذوي فلسفة ثورية أو عقيدة دينية.
العمل السياسي بتقاليده السائدة هو “فن” المناورة والمخاتلة وتحصيل أكبر قدر من المكتسبات” بأقل قدر من الأثمان… تقتضي السياسة جرأة على الكتمان أحيانا وشجاعة على قول ما لا يُقصدُ، ليس في الأمر نيلٌ من سلامةٍ أخلاقيةٍ ولا تشكيك في صدقيةٍ.
حين يحقق حزبٌ أو حركة أو جماعة مكتسباتٍ معتبرة ـ سياسيا ـ فإن الشركاء كلهم يعبرون عن افتخارهم وسعادتهم ويُذكرون بأهمية دورهم في تحقيق تلك الإنجازات… المكتسباتُ الهامة مغرية ٌومُحفزة للحسابات الفردية والمصالح الشخصية… كم لحظاتِ انتصار انقلبت إلى هزيمة متناسلةٍ حين لم يُحسن المنتصرون استثمارها وحين استعجلوا تصريفها بأكثر من قيمتها وقبل ميقاتها.
كثيرا ما تكون الإنتصاراتُ الموهومة أو الحقيقية مدخلا للتآكل الداخلي بما يُذهبُ ريحَ أحزاب وحركات وجماعات. وفي حالة مقابلة كثيرا ما تدفع الخيبات إلى تبرّئ عديد الشركاء وعدم تحمل قدر من المسؤولية في ما انتهت إليه الرحلة الجماعية من فشل أو هزيمة كما لو أنهم يستحضرون المثل الشعبي التونسي ” داخل في الربح خارج من الخسارة ” وهو ما يمكن اعتباره ضربا من “الإستثمار الرّبَوي” في الحقل السياسي.
الأخطاءُ والخيباتُ والخسرانُ في العمل السياسي حالات بشرية لا تنال من قيمة أصحابها ولا تشرعُ إقصاءهم أو تجريمهم ـ ما لم يُجْرموا بمقاييس الشرع والقانون المتعاقد عليه ـ كل ما تستدعيه الخيبات السياسية هو مراجعات جريئة صادقة ووقوف شجاع على الأخطاء وعزم واثق على التدارك. وتلك مسؤولية شركاء التجربة مجتمعين فلا يسارع نفرٌ إلى التبرئ من المسار كله وقد كانوا شركاءَ فيه
2 – الأخطاء والخطايا
إذا سلمنا ببشرية العمل السياسي وباحتمالات الخطإ فإنه يكون من المنتظر أن يتحمل كل فرد مسؤوليته في التقويم والتقييم دون تحرج من تحمل نصيب من المسؤولية التاريخية والقانونية والشرعية.
بعضُ الذين يخجلون من إعلان التعب والإنسحاب يقفزون إلى الضفة الأخرى يُقدمُون أنفسهم عقلاء وبالغين سياسيا وأبرياء مما فعل “القاصرون” منهم.
قد لا تكون مثل تلك المواقف مستساغة بمقاييس عدة حتى وإن سلمنا بحسن نيةٍ.
نوايا “المصلحة الوطنية” ومقتضيات المرحلة وواقعية السياسة وحكمة التعاطي كلها لا تبرر التنكر لتجارب طويلة ولتعاهد مع أناس على أفكار ومناهج ومآلات.
البرّ بالوطن يقتضي “اتهام” النفس أحيانا ويقتضي القطع مع مسارات تبينت آثارُها السلبية على السيادة الوطنية والأمن المدني والأمان النفسي، المصلحة الوطنية بتقديرات المواطنة لا بتقديرات التوازنات الحزبية والإيديولوجية.
“البر الوطني” يدفع صاحبه إلى التجرد من الأهواء والنرجسية ويدفعه إلى وقفات تأمل وإلى مراجعات دورية تستفيد من التغيرات الدائمة في المشهد الوطني والدولي وتعتبر من تجارب قريبة وبعيدة بمسافات المكان والزمان.
المراجعات لا تبدأ بإعلان البراءة من التجربة إنما تبدأ بإعلان تحمل جانب من المسؤولية في عيوب الأداء ثم إعلان التقدم نحو النقد والتقييم والتقويم سواء في مجهود ذهني مشترك مع شركاء التجربة أو في جهد فردي توجه نتائجه بالدرجة الأولى إلى شركاء التجربة لكونهم هم المعنيين قبل إي كان بنتائج المراجعة. وحتى إذا حصل إطلاع المجتمع على تلك المراجعات فمن باب الصراحة والجرأة والشجاعة في تحمل المسؤولية وأيضا من باب إطلاع عموم الناس على حقائق ما حصل حتى لا تستمر معلومة خاطئة أو فكرة متآمرة أو صورة مشوهة.
التجارب السياسية وإن كانت خاصة بأصحابها فإنها في الواقع ملك المجتمع كله إذ نشأت في بيئته وثقافته وبين أفراده ونتائجُها عائدة بالتأكيد بدرجة ما على عموم الناس وخاصة ما تعلق منها بالجانب الأمني.
3 – المراجعات والتراجعات
أن يُجري سياسيون مراجعاتٍ دورية يُقيّمون مسيرتهم يُحصون خطواتهم الثابتة ويتأملون مواطن زللهم فذاك أمر مطلوب ومحمود ولا يترتب عنه إلا خيرٌ على أن تتم المراجعات تلك بآدابها وآلياتها بحيث لا تنتهي إلى حالة تآكل داخلي ولا إلى ذهاب ريح شركاء التجربة. المراجعات المجدية يذهب إليها أصحاب التجربة مجتمعين متدافعين ومتناقدين وحتى متعاتبين سرا وجهرا وعلى الصفحات المقروءة دون أدنى استعداد لخصام أو صدام أو تبرئ من ذاكرة وتاريخ ومسافات مشتركة.
يمكن الإختلافُ في المراجعات وتلك علامة صحيّة ودلالة حرية وتنوع بشرط القدرة على تحمل ذاك الإختلاف فلا ينتهي إلى حالة “انشطار” أو تشظي يتسلل منه خصوم السياسة والإيديولوجيا. لا يليق الوقوع في حالة التراشق مهما اتسعت مساحة التباين في تقييم حصاد السفر.
ربما اختار بعض شركاء التجربة التراجع الجذري عن تجربتهم تلك وربما اقتنعوا فعلا بأنهم كانوا “خاطئين” فلا يمكن تحميلهم ما لا طاقة لهم به. ولا يمكن الإنشغال بالتنقيب في النوايا وبالاحتمالات السيئة ” إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ” حتى لا يخسر السياسيون أولائك تجربتهم وشخصيتهم في آن حين تجردهم السياسة من القيم.