أطلّت علينا الأسبوع الماضي شركات تجارية مختصة في استطلاعات الرأي وسبر الآراء بدراسات إحصائية جديدة تؤكد فيها صعود نجم الباجي قائد السبسي إلى مصاف الشخصيات السياسية الأكثر شعبية وأنّه من المحتمل أن يكون الرئيس القادم لتونس. كما أكّد هذا الاستطلاع أن حزبه سيكون منافسا جديّا لحركة النهضة التي شهدت ارتفاعا طفيفا في نوايا التصويت. نفس هذا الاستبيان أظهر تراجع شعبية حمادي الجبالي مقارنة بالسبسي وبروز نجم رئيس الحكومة الجديدة مهدي جمعة وانحدار شعبية نجيب الشابي وحمّة الهمامي.
وانبرت على إثرها الأقلام والمنابر تحلّل وتناقش هذه النتائج وتستطلع الأفق الانتخابي وحظوظ الأحزاب. وتجدر الإشارة الى أن هذه الاستطلاعات حسب ما يكشف عن ذلك مدبروها تعتمد على الاتصالات الهاتفية العشوائية سبيلا وحيدا، مع المخاطر المؤكّدة لمصداقية مثل هذه الوسيلة غير المعتمدة دوليا وغير الخاضعة للمعايير العلمية والمنهجية. فإلى أي مدى يمكن اعتماد مثل هذه النتائج وما هي نسبة صدقية ونزاهة وشفافية مثل هذه الدراسات الإحصائية وعمليات سبر الآراء التي تقوم بها بعض شركات الرصد وسبر الآراء في تونس بعد الثورة؟
تعتبر شركات سبر الآراء واستطلاعات الرأي في الدول العريقة التي تنتهج مبدأ الديمقراطية ومبدأ سيادة الشعب أداة مهمّة من أدوات استقصاء اتجاهات الرأي العام الشعبي، وهذه الأداة غير مقتصرة على تحسّس التوجّهات العامّة للمجتمع في المجالات السياسية فحسب بل تتجاوزه إلى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية..
وبالرغم من أنّ نتائج هذه الاستطلاعات من المفروض أن تساهم في رصد التوجّهات وسبر تطلّعات الرأي العامّ تجاه القضايا الحسّاسة، وتمكّن الفاعلين وصانعي القرار من الاعتماد على هذه النتائج في عملية تصويب القرار، إلّا أنّها تساهم في أحيان كثيرة في التأثير وفي صناعة رأي عامّ وفي إقناع واستقطاب قطاعات عريضة من الرأي العامّ، فما الحال إذا كانت مبنية على معطيات غير دقيقة أو على مغالطات أو على تزوير وتزييف ممنهج؟
إنّ هذه المناهج الحديثة لاستطلاعات الرأي تخضع عندنا في تونس لعمليات تزوير وتوجيه لا تخفى على متابع بل نكاد نجزم أنّ هذا التزييف أصبح طريقة معتمدة منهجيا سواء قبل الثورة أو بعدها، بل تضاعف بعد الثورة ووصل حدّا يبعث على السخرية والاستهزاء من مؤسسات وهيئات تتلاعب بالحقائق وتعمل على تزوير الإرادة الشعبية وذلك بغاية خدمة أجندات سياسية.
إنّ غياب كرّاس شروط ينظّم عمل هذه الشّركات ويُحَددّ مسؤوليّاتها وآليات مراقبتها، وتجعل عمليّات استطلاعات الرأي “مؤطّرة” أخلاقيّا وقانونيّا، بوجود هيئة رقابيّة تساهم في حماية المواطن من المتلاعبين بالعقول، تجعل هذا القطاع غير مهيكَل ولا مصداقيّة أو شفافية لنتائجه، ويكرّس سياسة “التَّشكيك” فيما تقدّمه من أرقام. ألم يطلّ علينا المخرج النوري بوزيد ذات يوم من سنة 2010 على إحدى القنوات الفضائية ليؤكد لنا جازما أنه اطّلع على دراسة إحصائية علمية واستقصاء للرأي يؤكد أن ثلاثة أرباع التونسيات “مفتضات البكارة” قبل الزواج وأستدل على هذه النتيجة بدراسة إحصائية قام بها مركز بحوث؟ ألم تؤكّد جميع نتائج سبر الآراء قبل انتخابات 23 أكتوبر أنّ النهضة لن تتحصّل على أكثر من 20 بالمائة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي؟ ألم يصرّح سامي الرمادي رئيس جمعية الشفافية المالية أنّه قام بإحصائيات تثبت وجود أكثر من 10 آلاف موظفا برئاسة الجمهورية ليتّضح في النهاية أنّه لا يوجد سوى 2800 موظف فقط. ألا يثبت هذا أن ما يسمى باستطلاعات الرأي أو سبر الآراء مازال يخضع عندنا لعمليات دمغجة ولأجندات سياسية وإيديولوجية تهدف لتزييف الوعي العامّ و لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بالواقع التونسي.
وإذا كنا اليوم لسنا مؤهلين إلى سنّ مثل هذه التشريعات فعلينا على الأقل أن نطّلع على تجارب الدول المتقدّمة، على غرار شركة “أبسوس” الفرنسيّة أو “غالوب” الأمريكيّة، اللّذين يحتويان على كفاءات بشرية وعلماء اجتماع وخبراء في الإحصاء والطرق الكميّة. وهو ما لا ينطبق على الشَّركات التونسيّة، المتّهمة بزواجها “المشبوه” مع المال السياسي، وبانجاز عمليّات سبر آراء “تحت الطلب”، وبشراء استطلاعات رأي على القياس لخدمة مصلَحة بعض الأطراف السياسيّة على حساب البقيّة ولتوجيه الرأي العامّ.