في الوقت الذي عدلت خلاله كل الأحزاب التونسية ساعاتها على الاستحقاقات الانتخابية القادمة، انفجر الصراع مرة أخرى في حركة نداء تونس بين مكوّنيه الأساسيين؛ الدساترة واليساريين، ويبدو أنه هذه المرة حادّ إلى درجة تنبئ بقرب حسم هذا الصراع بصورة نهائية، وهي رغبة تحدو رئيس الحركة الباجي القايد السبسي، بل يصرّ عليها في هذه المرة بصورة كبيرة؛ لإيمانه بأن المرحلة المقبلة لا تحتاج إلى صراعات داخل حزبه؛ ليقينه بأنها ستضعفه في الانتخابات، وتجعل رياحها لا تهبّ كما يريدها.
السبسي يعيد خلط الأوراق
وما يجعل هذا الصراع المتجدد في النداء من الأهمية بمكان على مستقبل الحزب برمته هو أنه في هذه المرة تحرّر من كلّ ستائر الغموض التي لفته سابقا، وخرج إلى العلن واضحا سافرا لا تعمية فيه، رغم أن الباجي قايد السبسي حاول التخفيف من وطأته حين وصفه بأنه مجرد خلافات شخصية، رافضا وصفه بأنه صراع أجنحة، ومرتكز السبسي في توصيفه هذا لما يجري في حزبه صحيح نوعا ما؛ لأنه أساسا صراع بين حافظ قايد السبسي ومن يقف وراءه، خاصة عبد الرؤوف الخماسي وسائر “الدساترة” في النداء، وبين الطيب البكوش “زعيم” يساريي هذه الحركة ومن يوالونه، إلا أنه يخفي وراءه “تناحرا بين الأجنحة” وصل إلى نقطة لا عودة فيها، وهو وإن كان قديما، لكنه تفجّر مؤخرا لسببين: الأول قديم متجدد، وهو الموقف من حركة النهضة التي برفضها قانون العزل السياسي حركت السكين في جراح صراع الأجنحة، وأثارتها من جديد حين أعطت مشروعية لموقف دساترة النداء الداعي إلى التعامل مع النهضة كأحد المكونات الأساسية للمشهد السياسي التي لا يمكن إقصاؤها، في حين سحبت النهضة بموقفها من قانون العزل الورقة الوحيدة التي يراهن عليها يساريو النداء لدعم موقفهم الإقصائي الاستئصالي للنهضة، بل جعلت وجودهم في النداء عبئا ثقيلا عليه إن كان بالفعل يريد أن يقدم نفسه كحركة منصهرة في الثورة، مؤمنة بمبادئها التي هي أساسا الديمقراطية واحترام كل تبعاتها.. أما السبب الثاني فهو ما أعلن عنه زعيم النداء يوم 8 ماي الجاري في اجتماع هيئته السياسية الذي خصص لإعادة هيكلة الحزب بطريقة أرادها رئيسه أن تنهي التجاذبات السياسية داخله، وتضع حدا لـ «حرب المواقع» داخله، وقد تمخّض هذا الاجتماع عن قرار بحلّ اللجنة الوطنية للهياكل التي يرأسها حافظ قايد السبسي، وتعويضها بهيكل جديد هو الإدارة المركزية للهياكل، إلى حدّ هنا كانت الأمور تسير لمصلحة يساريي النداء الذين اعتقدوا أنهم أجبروا الباجي على التخلص من ابنه، إلا أن رئيس النداء أكد لهم أنه لم يلق بالا لمطالبهم، ولا لاتهاماتهم المتكررة له بسعيه إلى “تقوية” ابنه في الحزب بمنحه رئاسة الإدارة الجديدة إلى حافظ قايد السبسي؛ ليشرف على تركيزها وتنظيمها. هذا القرار كان دليلا ساطعا على أن السبسي الأب انتصر للتيار الدستوري داخل حزبه، ووجّه ضربة موجعة إلى التيار اليساري قصمت ظهره في مواجهة التيار الدستوري، وهو إعلان رسمي على أن التيار اليساري خرج خاسرا خسارة مدوية من حرب المواقع داخل النداء التي حاول أن يكسبها لتمرير خياراته وتحديد بوصلة الحزب حسب ما يريد.
أوراق جديدة في الصراع
بعد أن خسر التيار اليساري “حرب المواقع” في النداء لم يرم المنديل، بل حاول ابتكار أوراق جديدة يعطي بها بعدا آخر للصراع مع الدساترة، فدخل في حرب محورها مؤسسات النداء، وسلاحه في ذلك طرح نقاط استفهام على شرعية هذه المؤسسات؛ ليجد من خلال ذلك منفذا لمراجعة ما صدر عنها من قرارات علّه يعيد دفّة القيادة إلى زمامه، وخلال الاجتماعات الماراطونية المنعقدة مؤخرا في النداء طالب يساريو الحركة بإعادة ما يعتبرونه فعالية مسلوبة لمؤسسة الأمانة العامة في الحركة، مطالبين بأن يكون للأمين العام الذي هو الطيب البكوش الحامل للواء زعامة التيار اليساري في النداء سلطة قرار واسعة في حجم منصبه كما هو متعارف عليه في بقية الأحزاب، وهذا ما اعتبره الباجي قايد السبسي تحركا خطيرا يستهدف مؤسسات الحركة، بل يستهدفه هو شخصيا؛ لأن كل مؤسسات النداء، وكل المواقع القيادية فيه قرّرها الباجي، في انتظار أن تحصل على الشرعية الانتخابية بعد عقد النداء لمؤتمره الأول الذي رفض اليساريون في هذه الحركة عقده سابقا؛ ليقينهم بانعدام فرصتهم في منافسة الدساترة في أي معركة انتخابية في النداء، وهو ما حتّم تأجيله إلى ما بعد الاستحقاقات الانتخابية القادمة؛ لأنه لا يمكن الاستعداد الجيّد لها وللمؤتمر إن تقرر عقده قبلها، بل لا يمكن لأي حزب أن يعقد مؤتمرا له وهو مقدم على معركة انتخابية مهمة ..
الباجي يلوّح بالورقة الحمراء
أمام هذا التغيّر الخطير في طبيعة الصراع بين الدساترة واليساريين في النداء، وخاصة تغير الأسلحة المستخدمة في حرب المواقع إلى ما يمكن أن يكون تهديدا صريحا لمؤسس الحزب وضربا لشرعيته ولرمزيته في الحركة. تحرك رئيس النداء بقوة رافعا صوته بالوعيد والتهديد، وملوّحا بإمكانية إعفاء كل من له يد في هذه الصراعات داخل حزبه، مؤكدا استعداده للتضحية بأي اسم حتى وإن كان ابنه إذا ثبت له أنه وراء هذه “الفوضى” التي تهدّد البنيان الذي سعى إلى تشييده بتعب بالغ، إلا أن تصريح السبسي الأخير الذي أشار فيه إلى أنه مستعدّ لإعفاء ابنه إن كان ذلك سينهي الصراع في النداء أكد من خلاله الباجي أنه يعرف جيّدا الأطراف “النافخة في لهب الخلافات” ليستعر أكثر، وقد أكد ذلك كلامه بأن الإعفاء لن يشمل ابنه فحسب، بل كل من له يد سواء كانت طويلة أم قصيرة في هذه الخلافات.
الباجي كان رده حازما على ما صدر من تصريحات صحفية من بعض قيادات النداء فقد قال في تعليقه على تصريحات الأمين العام البكوش «ان كان توجهه لوسائل الإعلام هدفه الضغط على رئيس الحركة، فانه (أي قائد السبسي) لا احد يمكنه الضغط عليه او كما قالها «ماثمة حد يضغط عليا». كما بدا السبسي مغتاظا جدا من تصريحات نور الدين بن تيشة الذي أشار لوجود «مال فاسد يبحث عن ضرب الحزب» بقوله إن مثل هذه التصريحات تؤثر على صورة الحزب، مشدّدا على أنّ حركته « معندهاش أموال فاسدة».
ويعتقد الكثير من المراقبين أن تصريحات الثلاثي البكوش بلحاج وبن تيشة لن تمر بهدوء لانها تعتبر لدى الكثير من الندائيين نشرا للغسيل وممارسة طفولية للسياسة ومحاولة للضغط على الأغلبية من اجل فرض رؤيتهم بالقوة، وهو أمر سيحسم خلال أيام بالمزيد من اضعاف جناح البكوش واعادة هيلكة للحزب بطريقة مختلفة.