اتّجهت الأوضاع في ليبيا هذه الأيام إلى وجهة لا يرضاها أبناء ليبيا العزيزة ولا أصدقاء الشعب الليبي من التونسيين وغيرهم. هذه الوجهة المفجعة ليست إلّا وجهة العنف ورفع السلاح والتقاتل بين أبناء البلد الواحد، وشريط الأحداث ينبئ بمخاطر عديدة بعد أن أدّت اشتباكات بداية الأسبوع إلى سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى.
لقد بعث هذا المنحى الخطير برسائل سلبيّة في مختلف الاتجاهات داخل ليبيا وخارجها؛ أوّلها عدم تعويل أطراف عديدة داخل ليبيا على مسار الانتقال الديمقراطي، بل ترى فيه أحد أسباب الأزمة المستفحلة، وتسعى جاهدة إلى حلّ كل الهيئات المنتسبة إليه. وثانيها غياب مؤسسات مجتمعية قادرة على إدارة حوار بين مختلف الفرقاء السياسيين وما أكثرهم. وثالثها ضعف الهياكل القائمة على إدارة المرحلة الانتقاليّة وتواضع إمكانياتها أمام حجم التحديات الأمنية والسياسية والاجتماعيّة.
إن هذا المشهد المتوتّر الذي تابعناه بألم خلال الأيام الأخيرة يدعو كل الغيورين والفاعلين داخل الساحة الليبية إلى الاعتبار مما يجري في بقية البلدان العربية؛ فالمراهنة على حسم الخلافات عبر فرض خيار طرف على طرف آخر بقوة السلاح لن يؤدي إلا إلى استمرار الصراع وتجذّره داخل المجتمع، وإلى مزيد من اشتشراء العنف وانتشاره وتدمير شامل للبنى التحتية والاقتصادية والاجتماعيّة، والحالة السورية واليمنية مثال على ذلك. كما أنّ المراهنة على الحسم العسكري أو إدارة الاختلاف بمنطق حدّ السيف سيفتح الباب إلى مزيد من التدخلات الخارجيّة العلنيّة والسريّة، وسترتبط مصالح مجموعات بهذه التدخلات، فيزداد القرار الوطني ارتهانا إلى الخارج وإلى حسابات الشركات المتعددة الجنسيات وتجار السلاح.
كما يفتح هذا الاحتراب الداخلي أبوابا عريضة أمام الإرهاب والقائمين عليه بما يزيد من استقالة المواطن وانكفائه على نفسه ورضائه بالعبودية مقابل توفير لقمة العيش والتمتع بالأمن المؤقت. هذا عدا المكانة التي تحتلّها ليبيا لدى جيرانها وفي مقدمتهم تونس التي تعتبر أمن ليبيا واستقرارها جزءا من أمنها واستقرارها، باعتبار تشابك المصالح وتقاطعها بين البلدين.
قد يجد التقاتل ومنطق الحسم العسكري هوى في نفوس كثيرة باعتبار ظهور نتائجه السريعة في السيطرة وفرض سياسة الأمر الواقع، ولكنه خيار مكلف على كل المستويات، أبرزها القضاء على الأحلام الوليدة في التحرّر والانعتاق والتنمية. كما أنه يستبعد الشعب الليبي من حقّه في تحديد النمط السياسي لبلاده لعشرات السنين القادمة.
المسألة ليست في الانتصار لهذه الجهة أو تلك، بل لا بدّ أن تعطى الأولية لاستبعاد كل أشكال العنف أو التقاتل، وضرورة محاصرة كل بواعث الفوضى، باعتبارها سيناريو مدمّرا لمقومات التعايش المشترك، ومدمّرا للدولة ومقوّماتها. وإذا استبعد هذا الخيار الكارثي، فهو في حدّه إنجاز للطبقة السياسية الليبية، ويجعل الحوار الآلية الوحيدة لإدارة قضايا المرحلة وإيجاد الحلول الكفيلة بمعالجتها.
فهل يجتمع الفرقاء الليبيون على هذا الخيار ويوفّروا على أنفسهم وعلى المنطقة المزيد من الدمار؟