لا يمكن وصف الوضع في ليبيا إلا ببرميل من البارود قابل للانفجار في أي لحظة. ورغم المساعي والأصوات القليلة الداعية إلى المصالحة الوطنية والتهدئة، فإن حالة التوتر والانقسام والتمترُس لا تبشر بخير، وستبقى الأعصاب مشدودة والأيادي على البنادق، والخسائر المادية والبشرية متوقعة، والتدخل الخارجي مسوّغا، ما لم تحقق ليبيا انتقالها الديمقراطي ومصالحتها التي يجب أن تكون نسخة ليبية، وإنتاجا ليبيا خالصا يراعي عقلية المجتمع والوضع القبلي والمستجدات السياسية الداخلية والخارجية.
معضلة السلاح
تحدثت في زيارة سابقة إلى طرابلس مع عدد من الليبيين عن أهم المشاكل التي تخيفهم وتعيق انخراطهم في العملية السياسية والتنموية، فكان الحديث عن انتشار السلاح هو أكبر المخاطر، فيما تأتي الثقة في السياسيين والمجموعات المسلحة في المرتبة الثانية، ويرى اغلب من تحدثت معهم أن الحلّ ممكن، ولكنه صعب، ويجب أن تسبقه جلسات مصارحة وحوار بين الليبيين أنفسهم. ويرى آخرون أن التدخلات الخارجية زادت في تعفين الوضع، وزرع الحقد والكراهية بين الأطراف السياسية والقبلية، وهو ما أفشل الكثير من محاولات الحوار، وعمّق هوّة الخلاف بين أبناء الوطن الواحد.
وتبقى أكبر المشكلات التي تواجه الداخل الليبي وتؤرق دول الجوار الانتشار الكبير للسلاح في كل مناطق ليبيا، إذ تتحدث العديد من المصادر عن وجود ما يقرب من 30 مليون قطعة سلاح، بعضها أسلحة ثقيلة ومتطورة. ويزيد في خطورة انتشار السلاح ـ بشكل فوضوي ـ غياب جيش وأمن قويين في ليبيا ما بعد الثورة؛ فقد تعدّدت الكتائب والمجموعات المسلحة ذات الولاءات القبلية والسياسية. وفيما تؤكّد مصادر ليبية عديدة أن أي مجهود لجمع السلاح هو عبث ولن يتحقّق الآن، مع تعدّد الولاءات وعدم الثقة بين الأطراف المتنافسة، فإنها ترى أن أي مجهود لبسط نفوذ الدولة، واسترداد هيبتها، وتوحيد جيشها لن يتم قبل توضيح العملية السياسية والبحث عن مخرج وفاقي يتنازل فيه الجميع للجميع من أجل وطن جديد حلم به الليبيون منذ أكثر من أربعين سنة.
ومع ضبابية الخروج من المأزق الانتقالي، إذ يشكك كل طرف في شرعية الآخر، يبقى الوضع على ما هو عليه، وهو ما يفتح الباب واسعا لكل الاحتمالات، وتبقى المواجهة الكارثية، أو الحرب الأهلية احتمالا قائما، أو مؤجّلا ما لم تجلس الجهات المدنية في الدولة وتسطّر خارطة طريق لتجنيب ليبيا ويلات التقاتل والدم التي سقطت فيها مجتمعات عربية أخرى كثيرة.
انقسام داخلي وتدخل خارجي
وإذا كان الكثير من الليبيين يدركون حجم الخطر الذي ينتظرهم في صورة اندلاع نزاع مسلح، ويؤكدون أن انتشار السلاح معضلة ولعنة أصابت البلد، فإنهم أيضا يقرون بأنه عامل توازن، ويسمّونه أحيانا “توازن الرعب”. فمع تعدد الأقطاب المسلحة يستحيل نجاح أي عمل انقلابي، كما يستحيل معه تدخل خارجي ناجح، ولا يمكن لأي طرف سياسي أو قبلي أن يغامر بالدخول في عدوان سافر على طرف آخر، ولهذا أيضا يستبعد البعض قيام حرب أهلية بالشكل التقليدي الذي عرفته مجتمعات أخرى.
أحد مظاهر الانقسام الأخرى التي تشقّ المجتمع في ليبيا الآن هي ثنائية الإسلاميين والليبراليين التي تغذيها العديد من الأطراف الدولية، وخاصة بعد انقلاب السيسي في مصر، ورغم محاولات العمل المشترك في المؤتمر الوطني، فإن الخلاف والشقة بين الطرفين توسعت بشكل كبير؛ فعدد من القيادات الليبرالية تحمّل شقا من التيار الإسلامي (أنصار الشريعة خاصة) مسؤولية انتشار العنف والإرهاب ورعاية مقاتلين أجانب والقيام باغتيالات الهدف منها تصفية الخصوم، في حين تتهم العديد من الجهات الإسلامية آخرين بالعمالة للخارج والقيام باغتيالات وتصفيات خاصة في بنغازي لتوتير الوضع والزيادة في الاحتقان من أجل توفير الأجواء المناسبة للتدخل الخارجي والسيطرة على الحكم خارج التقاليد الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة.
وتشير الكثير من التقارير الإخبارية في ليبيا إلى وجود الكثير من أجهزة المخابرات الغربية والعربية التي تشتغل بشكل كثيف في ليبيا وتتسابق من أجل السيطرة على الوضع بهدف أمني أو اقتصادي، فالأطماع في ثروات ليبيا من الغاز والنفط كبيرة، ولا يمكن استبعادها من محاولة تحليل وفهم ما يحدث في ليبيا بعد الثورة.
تونس والخوف من البركان
يردّد البعض مقولة معبّرة تقول: “إذا عطست ليبيا أصيبت تونس بالزكام” في إشارة ذات دلالة على أن تونس هي أكبر المتأثرين والمتضررين من أي انفجار مسلّح في ليبيا. فتونس التي تستقبل أكثر من مليون ونصف مواطن ليبيّ على أراضيها، واستقبلت أضعافهم خلال ثورة 17 فبراير تعاني من مشاكل اقتصادية وأمنية يغذّيها الانفلات الحاصل في ليبيا، في حين أن استقرار الدولة هناك وعودة السلطة إلى الدولة المركزية سيعود بالنفع على التجربة التونسية التي ما زالت بدورها تسطّر طريقها بصعوبة.
ورغم أن دولا كثيرة ستتضرر من انفلات مسلّح ـ لا قدر الله ـ في ليبيا، ومنها الجزائر ودول غربية كثيرة قريبة من شمال إفريقيا، فإن تونس هي الدولة الأكثر عرضة للأخطار بسبب حداثة التجربة فيها، وإمكانية استهدافها من قبل جماعات إرهابية وجهات خارجية بهدف زعزعة استقرارها، خاصة أنها الوحيدة من بين دول الربيع العربي التي تكافح من أجل بناء تجربة ديمقراطية سلمية في المنطقة.
ولهذا دفعت تونس بالكثير من عناصر جيشها الوطني إلى الحدود؛ خوفا من انفراط الوضع، كما وضعت العديد من الإجراءات الأمنية تحسّبا لأي طارئ يؤثر على أمنها أو استقرارها الاقتصادي، وقد تمكنت قوات الحرس الوطني من القبض خلال يومين على مجموعة متسللة من التراب الليبي كانت تخطط لعمليات دموية في تونس، وهو ما يؤكد حقيقة أن البركان الليبي إذا انطلق ستصيب شظاياه ـ لا محالة ـ الجسم التونسي.
المغرب العربي شريك في الحلّ
لا يمكن لتونس ولدول المغرب العربي، وخاصة الجزائر والمغرب أن تقف مكتوفة الأيدي أمام اقتراب موعد الانفجار في ليبيا؛ إذ سيعتبر هذا السيناريو كارثيّا على المنطقة بأكملها. ولهذا السبب وغيره من الأسباب، ومنها احتمال التدخل الخارجي من قوى كبرى، فإن الدول المغاربية مطالبة بتحرّك عاجل للمشاركة في وضع الحلّ، والضغط في اتجاه تنظيم حوار ومصالحة وطنية تنتهي بانتخابات شفافة وديمقراطية تفرز حكومة قوية ودولة تبسط سلطانها على كل التراب الليبي. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعتبر تحرّك الدول المغاربية تدخلا في الشأن الداخلي الليبي، بل هو مساعدة على الوصول إلى الحلّ وتجنّب الأسوأ، وهو بالأساس وقاية لكل دول المنطقة من تداعيات خطيرة لا يعلم إلا الله كيف ستكون إذا عرفت المنطقة صراعا مسلحا ومجنونا لن يستفيد منه أحد إلا أعداء المنطقة وتجار الدم وسارقو الذهب الأسود.
الحل في ليبيا يبقى ممكنا إذا صدقت النوايا الحسنة، وحوصرت المحاولات اليائسة للتآمر على ثورات الربيع العربي في مهدها، وسيكون دور دول المغرب العربي مهمّا ورئيسيا في تجنيب المنطقة هذا السيناريو المرعب، وإنقاذ الشعب الليبي من مصير الأفغنة والصوملة واللبننة، وهو لعمري دور استراتيجي يجب أن تقوم به حكومات تونس والمغرب والجزائر قبل فوات الأوان وقبل انفجار برميل البارود في حقل من النفط.