تحدثّ بعض الساسة ورموز دولة في الفترة الأخيرة عن وجود عصابات تموّلها بعض الأحزاب ورجال أعمال وقضاة فاسدين وأمنيين أحيلوا على التقاعد الوجوبي، تلتقي تحت جنح الظلام لفبركة أحداث ووقائع غايتها تشويه المناضلين وقيادات من حركة النهضة باطلا.
وان صحّت هذه التسريبات فأنّ خصوم النهضة يكونوا بذلك قد دخلوا مبكّرا في وضع “استراتيجيّة انتخابية سوداء” تقوم على الغاية تبرّر الوسيلة و”اكذب اكذب حتى يصدقك معظم الناس”. وتوهموا أنّ أفضل وسيلة للتقليل من شعبية النهضة هو إصابتها في سمعتها الأخلاقية،وضرب تلك الرمزية الأخلاقية لدى عموم الناس عبر اتهامهم بمسائل لا أخلاقية كالكذب تارة والسرقة طورا والخيانة أحيانا أخرى، مستعينين بقوى إعلامية احترفت تشويه الإسلاميين منذ العهد البائد وكلنا يتذكر الانحطاط الأخلاقي الذي انحدرت إليه بعض الأقلام والمنابر المأجورة في بداية تسعينيات القرن الماضي في تشويه الإسلاميين وباقي خصوم المخلوع.
ولعلّ المتابع للشأن السياسي الوطني يلاحظ تركيزا من بعض المعارضة على الجانب الأخلاقي وهو أمر لا يخلو من دلالات، أهمها أنّ حركة النهضة لها رمزية خاصة على المستوى الأخلاقي باعتبار مرجعيتها الدينية ورصيدها القيمي الذي تميّزت به حتى أنّ انتخابها من طرف قطاعات واسعة من التونسيين كان لاعتبارات أخلاقية. فهم الذين “يخافوا ربي” و”ما سرقوش وما نهبوش” كما كان يردّد بعضهم…
يقينا الصراع السياسي مشروع بل هو مطلوب في الديمقراطية لكن المفروض أن يكون صراع أفكار وبرامج وتنافس لخدمة الشعب التونسي بعيدا عن الشعارات الثورجية الزائفة والقدح الشخصي للخصوم السياسيين وتجريحهم وهتك أعراضهم. كلّ الأحزاب مارست المناورة السياسية كجزء من المعارك السياسة لكن يجب أن لا تتحول السياسة كلها إلى مناورة. فما نراه اليوم من حملات انتخابية لا أخلاقية تقوم على تشويه حركة النهضة ورموزها بإطلاق الأراجيف والأباطيل والشائعات والخوض في الأعراض واستعادة الاسطوانة المشروخة القديمة التي حفظها الجميع عن ظهر قلب خلال الحملة الانتخابية السابقة، إنّما يؤكد لنا يوما بعد يوم أنّ فصيل من المعارضة لا يستطيع أن يخوض معارك انتخابية أخلاقية وشريفة تقوم على مقارعة الأفكار ومكافحة الحجة بالحجة والمنافسة حول البرامج الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية لأنه يؤمن بمبادئ رسول الشيوعية والأب الروحي للماركسية انجليز الذي علّمهم “أنّ الأخلاق التي يؤمنون بها هي كلّ عمل يؤدي إلى انتصار مبادئهم مهما كان هذا العمل منافيا للأخلاق المعمول بها”، ووفي لمبدأ لينين الذي يعطي للمناضل اليساري الثوري الحق في “أن يتمرس بشتى ضروب الخداع والغش والتضليل في كفاحه من اجل مقاربته”، وهكذا فهم يعتبرون أنّ عالم السياسة عديم الأخلاق والقاعدة في ذلك هي: ”الغاية تبرّر الوسيلة” كما قال مكيافيلي.
لكن يبدو أنهم لم يتعلّموا بعد أنّهم متواجدون في بلد له أرضية قيميّة صلبة نابعة من تراث حضاري أصيل وأنّ إصرارهم على هذا النهج اللأخلاقي في المنافسة الانتخابية سيفقدهم كلّ رصيدهم الشعبي والانتخابي.
ويذكرنا هذا السلوك بممارسات النظام البائد الذي اعتمد على تلفيق تهم وفبركة قضايا وهمية وتركيب تسجيلات صوتية وفيديوهات مزيفة للنيل من سمعة وأعراض خصومه السياسيين وتشويه صورتهم لدا الرأي العام ليسهل عليه ضربهم والنيل منهم.
ولكن ربّما سقط سهوا عن هذه الجماعات أن نظام المخلوع كان يعتمد على الحزب الواحد والمعارضة الواحدة وعلى بوق إعلامي واحد، فلم يكن متاح للشعب أن يستمع إلا لهذا الصوت ولم يكن بمقدوره حصحصة الحق من الباطل، وخفي عنه أنّ الزمن غير الزمن وأن الشعب غير الشعب وان الإعلام غير الإعلام وأن المعارضة غير المعارضة وأن هذه الأساليب قد عفا عليها الزمن وأنهم كمن يبحث عن أعقاب سجائر.
لما كان بن علي وعصابته يكيلون التهم ويفترون على معارضيه ويفبروكون الوقائع لم يكن هناك صوت يُسمع إلا صوته وصوت ماكينته الحزبية والدعائية وكان من السهل في إطار حصار سياسي وحقوقي وإعلامي آن يبتلع جزء من الشعب الطعم الذي ألقى به وأن يصدّق ما يرويه من أراجيف وأباطيل في حق مناضلين. ولكن للأسف هذه العصابات لا يمكنها أن تتمعش إلا في مناخ استبداد ودكتاتوربة تغيب فيه الحريات وتغيب فيه التعددية السياسية والحقوقية والإعلامية ويغيب فيه رقي الوعي الشعبي. ما تجهله هذه اللوبيات المفلسة واليائسة والمنكوبة التي فشلت كل محاولاتها الانقلابية على الثورة وسفّهت كل أحلامهم باسترجاع أمجادهم وقلاعهم، هو أنّ الزمن اليوم غير زمن المخلوع وعصبته والمرحلة التي نعيشها غير مرحلة الدكتاتورية والقمع والهيمنة والتسلّط التي تغوّلوا فيها وتمعشوا منها. ولم يفهموا أنّ حركة النهضة ومناضليها لم يعد يرهبهم فبركة القضايا والتهم ولم يعد يخيفهم تكتل قوى الشر وخفافيش الظلام ولم يعد يزعجهم القصف الإعلامي لماكينة دعاية المخلوع وزبانيته التي تعودوا عليها.
إنّ اعتقدت هذه العصابة اليائسة أنّ صناعة الرأي العام الواحد اليوم باعتماد جوقة إعلامية أو منظمات مشبوهة أو شخصيات تحوم حولها نقاط استفهام عديدة أمر محتمل فهم واهمون، فالشعب التونسي الذي صنع معجزة الثورة لم يعد هو نفسه ذاك الشعب الذي يأمر فيطاع والذي تتلاعب به وبمصيره واختياراته أجهزة الدولة الفاسدة، التونسيون اليوم لديهم من الخبرة والحنكة السياسية والذكاء والفطنة والوعي ما يجعلهم يميزون الخبيث من الطيب ويميزون الأراجيف من الحقائق ويميزون الخائن من الصادق.
لقد كان حريا على هذه الجماعات الحاقدة البائسة أن تدرك وتستوعب جيّدا أن أساليبهم هذه أصبحت بالية ورخيصة وأن تعمل على تطويرها بما يتماشى مع هذه المرحلة الجديدة التي تعيشها بلادنا، وأن تنسجم مع النسق السريع نحو الإعمار وبناء الدولة الديمقراطية الحديثة، وأن تهضم مبادئ الحرية والانفتاح الذين كرستهما الثورة، وإلا فل يبحثوا عن حاضنة أخرى لمخططاتهم البالية ولأهدافهم الرجعية في بلد غير هذا البلد وفي مجتمع غير هذا المجتمع، الذي لفظهم ولفظ أساليبهم.
لم يعد هناك أي مجال اليوم للانتكاس إلى الخلف ولم يعد بمقدور أي جهة مهما كانت سطوتها أن تجرّ البلاد إلى مستنقع الاستبداد والهيمنة ولا مستقبل إلا لمن يبني ويؤسس لبناء ديمقراطي جديد في تونس يقطع تماما مع ماضيها المظلم.