تنوعت اللقاءات والمحاضرات والندوات في زيارة الشيخ راشد الغنوشي إلى باريس نهاية الأسبوع الماضي، فيما وجدت تلك الزيارة التاريخية الحفاوة الكبيرة من قبل النخبة الفرنسية والإعلام الفرنسي، كما حضر المئات من الجالية التونسية اجتماعا شعبيا مع الغنوشي الذي ركز في مختلف أحاديثه على النموذج التونسي والديمقراطية التوافقية وحظوظ نجاح الثورة التونسية في تحقيق أهدافها. وقد أجمع مختلف الملاحظين ومن تابعوا تلك الزيارة على نجاحها الكبير في الدفاع عن سمعة تونس وثورتها ومزيد توثيق العلاقة مع الشعب الفرنسي، بالإضافة إلى تقديم النموذج التونسي الجديد الذي جاءت به الثورة أحسن تقديم.
وقد عقد الشيخ راشد الغنوشي صحبة وفد من المكتب السياسي لقاءات بوزارة الخارجية الفرنسية مع مسؤولين ودوائر تفكير، تناولت الشأن التونسي والشأنين الإقليمي والعربي. والتقى خلال الزيارة رئيس ديوان وزير الخارجية الفرنسية ومدير مركز البحوث والتحاليل الإستراتيجية في الخارجية الفرنسية.
وقد حرص الشيخ والوفد المرافق له على توضيح وجهة نظر الحركة في الوضع في تونس التي تتلخص في ضرورة الحفاظ على المسار الديمقراطي واستكماله، وآليات ذلك، والأولوية المطلقة للوفاق والمصلحة العليا للوطن ولو كان ذلك على حساب المصالح الخاصة بالأحزاب. كما ألح على أن المرحلة الانتقالية التي تعيشها تونس تتطلب ما نسميه “الديمقراطية التوافقية” التي توسع أرضية الحكم؛ إذ بينت تجربة الثورات العربية أن الأغلبية وحدها لا تكفي لإدارة الشأن العام في ظرف انتقالي ربما يدوم سنوات، وهو ما يمكن أن يجنّب البلاد الاحتقان السياسي والاجتماعي.
ومن جهة أخرى تطابقت وجهات النظر بشأن الأوضاع في ليبيا من حيث ضرورة الإسراع بإيجاد أرضية توافقية واسعة تسهم في إخراج هذا البلد من دائرة المخاطر التي تتهدده والسقوط في صراع مسلح سوف تطال نتائجه السلبية ضفتي المتوسط.
كما تناول الطرفان المسألة العراقية واتفقا على ضرورة الخروج من وضعية الاقتتال عبر تشكيل حكومة وحدة وطنية تتجاوز الخطاب الطائفي والتحريض.
من جهة أخرى كان الغنوشي قد ألقى محاضرة في الأكاديمية الدبلوماسية الدولية بحضور عدد من السياسيين والمثقفين الفرنسيين، من بينهم جون فرنسوا ديغوا، تحدث فيها عن المشروع التوافقي والنموذج التونسي. كما زار الشيخ المسجد الكبير بباريس وألقى فيه درسا عن المواطنة نقلته إذاعة الشرق مباشرة وموقع المسجد على الانترنت. كما ألقى محاضرة في معهد العلاقات الدولية للشرق الأوسط بحضور بعض الطلبة والسيد جاك لانغ وزير الثقافة السابق في حكومة فرانسوا ميتيرون، وهو رئيس المعهد العربي وأحد الشخصيات اللامعة والمؤثرة، وكان الرجل قد رفض زيارة تونس في عهد المخلوع، ولكنه زارها بعد الثورة وأكد في تصريحات مختلفة أنه يدعم مشروع الانتقال الديمقراطي في تونس.
ووضّح في محاضرته في مؤسسة البحث والدراسات للمتوسط والشرق الأوسط iREMMO مميزات النموذج التونسي للانتقال الديمقراطي، وأهمها مبدأ التوافق وحلّ الخلافات عن طريق الحوار دون إقصاء أحد، وشدّد الشيخ راشد على ضرورة تواصل هذه المبادئ حتى بعد الانتخابات القادمة، مؤكدًا أن النهضة تتبنّى تكوين حكومة وحدة وطنية بعد تلك الانتخابات حتى يساهم الجميع في التوافق على مستقبل تونس.
كما التقى الشيخ راشد والوفد المرافق له الذي ضم كلّا من عامر العريض وحسين الجزيري ونجيب العاشوري وأحمد البرقاوي وفدا عن حزب الخضر الفرنسي، وكذلك وفدا عن حزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية بمشاركة رشيدة دالي وزيرة العدل السابقة.
وأجرى خلال الزيارة عددا من المقابلات الصحفية مع لوفيغارو وفرنس 24 ومونتكارلو وفرنس انتار ولوباريزيان، كما تحدث مع عدد من ممثلي وسائل الإعلام الفرنسية.
هوامش من الزيارة
• أكد الشّيخ راشد الغنّوشي في محاضراته في باريس أنّ الثّورة التّونسيّة حققت إشعاعا كبيرا عبر العالم، وفتحت صفحة جديدة في تاريخ العرب والمسلمين، وقدّمت رسالة جميلة عن الإسلام وبيّنت أن الإسلام حرّية وثورة وعدل ومساواة وأخوة وسلم وعلم وتقدّم، وكما أنّ الثّورة الفرنسيّة فتحت صفحة جديدة أمام أوروبا على الدّيمقراطية وعلى العلم وعلى التّقدم، فإن الثّورة التّونسيّة قدّمت رسالة على أنّ العرب والمسلمين هم أيضا يستحقّون الدّيمقراطيّة بعد أن كان العالم العربي مخنوقا بالدكتاتوريّة تحت أنظمة الفساد والظّلم.
• في كلمته التذكارية في السجل التذكاري لمعهد العالم العربي بباريس كتب الغنوشي:
تشرفت ظهيرة هذا اليوم 23-06-2014 مع وفد من حركة النهضة بزيارة هذا المعلم الثقافي العظيم ومقابلة رئيسه السيد جاك لانغ، معربا عن امتنانه الكبير للدولة الفرنسية التي كرمت الحضارة الإسلامية وأمة العرب بهذا المعلم.
• خلال اليوم الأخير لزيارته للعاصمة الفرنسية باريس عقد الشيخ راشد الغنوشي عددا من اللقاءات والأنشطة، فزار معهد العالم العربي بباريس الذي يعتبر من أهم المراكز المهتمّة بشؤون العالم العربي في الغرب، والتقى برئيس المعهد الوزير السابق جاك لانغ الذي رحّب بالشيخ راشد وأشاد بالتجربة التونسية للانتقال الديمقراطي وبالدور الذي لعبه الشيخ راشد في إنجاح هذا المسار. وأكد جاك لانغ أن تونس تمثل الأمل لكل الديمقراطيين في العالم ولمحبي العالم العربي الذين يرجون أن يمثل نجاحها نموذجا للمنطقة. ودعا السيد جاك لانغ الشيخ راشد إلى زيارة المعرض الذي ينظمه معهد العالم العربي عن الحج، والذي يشهد إقبالا كبيرا من الجمهور الفرنسي.
• توّجت زيارة الشّيخ راشد الغنّوشي إلى باريس بحضوره اجتماعا عاما أقامه أنصار حركة النهضة هناك، وضمّ الحشد الجماهيري خلال هذا اللّقاء عددا كبيرا من الجالية التونسيّة في المهجر، إضافة إلى حضور عدد من الجاليات العربيّة. وتمحور خطابه حول التعريف بالثّورة التونسية وإنجازاتها وإشعاعاتها التي ألهمت ثّورات الرّبيع العربي ولا تزال تلهمها، ولم يفت الشّيخ راشدا الغنّوشي خلال هذا اللّقاء أن يثني على إسهامات المناضلين في صفوف حركة النّهضة الذين لعبوا دورا تاريخيا في كسر شوكة الدكتاتورية. ومن ثمّ يذكر الشّيخ بعض الأسماء البارزة في النّضال ضد الطغيان، فيذكر الدكتور منصف بن سالم والدكتور عبد الرّؤوف بولعابي أقدم مهاجر في صفوف حركة النهضة الإسلامية الذي طالته يد الطغيان في تونس وهجّرته بسبب نضاله ضد أجهزة القمع والدكتاتورية في البلاد.