أعلن بحر الأسبوع الجاري عن تراخيص جديدة لعدة مواقع إذاعية وتلفزية، وأدخل هذا الإجراء برغم محدوديته أجواء مريحة على الساحة السياسية والإعلامية التونسية، وتبادل التونسيون المعنيون بهذا الموضوع التهاني رغم أنه حق من الحقوق.
ويعود الاستبشار بهذه الخطوة إلى أنّها جاءت إثر الأجواء التي شاعت في الآونة الأخيرة التي يمكن وصفها بالخطيرة على مسار وتوجّه من المفترض أنه يسير على درب إرساء الديمقراطية، هذه الأجواء خلّفتها القرارات التي صدرت متزامنة مع تعليق نشاط عشرات الجمعيات دون كبير احترام للإجراءات القانونية المنظمة لهذا القطاع، وهو ما بعث برسالة سلبية إلى جمهور عريض من الفاعلين في المجتمع المدني بأنّ الأبواب موصدة أمامكم للعمل، وعليكم العودة إلى المربع الأول للنضال من أجل حقّ ممارسة الحقوق المدنية التي نص عليها الدستور الجديد الذي لم يجف حبره بعد.
ولم تكن حجة مقاومة الإرهاب الذي لا يشك تونسي في خطورته وضرورة التصدي الحازم له، مسوغا كافيا ليتقبل الجمهور المتعطش إلى المشاركة في الشأن العام، لأن الأحكام القبليّة والعامّة التي تأتي بغتة ليست من سمات من يروم بناء الحياة الديمقراطية التي تليق بالتونسيين. فالتوجه نحو حلّ الجمعيات بالجملة ليس من الديمقراطية في شيء، ويخدم الإرهاب ولا يساهم في التصدّي له.
فالبناء الديمقراطي من ضروراته تشجيع المواطنين على الانخراط في الشأن العام والمشاركة في القرار، وذلك عبر الانضواء تحت الجمعيات والمنظمات والنقابات والأحزاب حتّى يعبر المواطن عن رأيه في كل القضايا التي تعيشها البلاد، ويساهم في استنباط الحلول لها، فيزداد ارتباطه بوطنه ويرتفع منسوب احترام القانون والخيارات التي تسير فيها المجموعة الوطنيّة، فالعمل الجمعياتي خيار استراتيجي ضمن “دمقرطة” الحياة السياسية وتشريك المواطن في إدارة معارك التنمية بأنواعها، ويجعل الحراك الاجتماعي فوق الأرض شفافا، لا تحت الأرض غامضا.
إذا جاءت قرارات الهيئة الوطنيّة المستقلّة للإعلام السمعي البصري بالترخيص لعدد من القنوات التلفزية والإذاعية، ونتمنّى أن تعقبها تراخيص أخرى تشمل كل مؤسسة إعلامية استكملت الشروط القانونية، لتعطي جرعة جديدة للبناء الديمقراطي المنشود، ولتبعث برسالة إيجابية إلى كل الذين كاد الإحباط أن يسكن أفئدتهم. إن تونس سائرة في المسار الذي من أجله ضحى أجدادهم وآباؤهم وأبناؤهم وإن الديمقراطية في تونس الجديدة ليست “تقليعة”، أو “طلعة” من طلعات المستنفذين لتنفيس وضع محتقن، أو “رتوشا” ولمسات تحسينية لتسويق الاستبداد، وإنها الخيار الاستراتيجي للنهوض بالإنسان التونسي وتحريك الدورة الاقتصادية وتحقيق التنمية الاجتماعية والاعتزاز بكل مكونات الساحة التونسية، فالديمقراطيّة خط متواصل وليست مجرد نقطة نعود بعدها إلى سطر الاستبداد.