يجمع كل المتتبعين للساحة السياسية التونسية انّ الظروف التي حفت بانتخابات أكتوبر 2011 قد تغيرت وان عوامل جديدة قد طرأت على أكثر من صعيد تجعل انتخابات 2014 في إطار يكاد يكون مغاير تماما لإطار الانتخابات السابقة.
ويمكن ان نوجز هذه المتغيرات في عناوين إجمالية أولها أن لهيب انتفاضة 17 ديسمبر / 14 جانفي قد خبا وضمر بفعل الزمن وبفعل تسلم الأحزاب السياسية للمهام التي كانت موضوعة على عاتق القوى المنتفضة، وثانيها هو عودة الفاعلين السياسيين القدامى وأصحاب النفوذ الإداري والمالي ما قبل الثورة إلى العمل العلني وتشكلهم في أحزاب سياسية لم تشارك في انتخابات أكتوبر 2011 وابرز هذه التشكيلات هو نداء تونس الذي تأسس مطلع 2012 كرد فعل فوري عن نتائج انتخابات 2012 وصعود الترويكا إلى سدة الحكم.
المستجد الثالث هو مرور ثلاث سنوات وتعاقب ثلاث حكومات لإدارة الشأن العام والسعي إلى الاستجابة الى تطلعات التونسيين، والمناكفات والاصطفاف السياسي الذي دخلته البلاد وكاد يذهب بالأخضر واليابس على اثر دخول العمليات الإرهابية على الخط حتّى أنها أصبحت المؤثر السياسي الأول بالبلاد، والمستجد الرابع وليس الأخير هو التطور الحاصل على المستوى الدولي والإقليمي في علاقة بالشأن الليبي والشأن المصري والمواقف المناوئة للثورات العربية.
فالقضايا التي عددناها وغيرها كثير كلها عوامل جديدة وتؤثر مباشرة على صورة ومواقف كل الأطراف السياسية المُقدمة على خوض غمار الاستحقاق النيابي والرئاسي المقبلين فهل ان هذه الأحزاب والقائمات المترشحة عموما واعية بهذه المستجدات؟ باعتبار أن التونسيين الذين سيختارونهم سيدخلون مقاييس جديدة يتمّ على أساسها الفرز والتمحيص، و من المنتظر ان تتمّ على أساسها معاقبة البعض ومجازاة البعض الأخر وفقا لتقييم إجمالي يمتلكه المواطن العادي من خلال رصده ومتابعاته لتجربة الانتقال الديمقراطي وتعاطي مختلف الأطراف معها.
هذه المستجدات تضعنا أمام آليات من المنتظر ان تلجا إليها خاصّة ما يمكن ان نطلق عليه أحزاب السلطة ، باعتبار ان عددا كبيرا من الأحزاب والقائمات الصغرى تمضي اغلب ايام الحملة الانتخابية في معركة الهوية والتعريف بنفسها فتكون البرامج على الهامش. فالنهضة الحزب الفائز في الاستحقاق الانتخابي الجديد، لا يمكن ان يكون ظهوره الانتخابي مبني على التعريف بنفسه بل على الدفاع عن المرحلة التي شارك فيها في إدارة البلاد وعن الانجازات التي حققها طيلة المرحلة التاسيسية، ولا شك ان انجاز دستور حداثي يمجد الدولة المدنية ويعلي من شان الحريات ويجذّر مكاسب المرأة، والنجاح في التوقّي من كل محاولات التفتين بين التونسيين ستكون الورقات الرئيسية في المعركة الانتخابية. امّا نداء تونس، فسيسعى الى خوض المعركة على واجهتين، واجهة هوويّة في محاولة لكسر الصورة التي تضعه في نفس اطار “التجمع الدستوري”، وهذه المعركة ليست بالسهلة نظرا للعدد الكبير من الوجوه التجمعية التي تتصدر دائرة الفعل فيه، ولاستعماله لنفس ” الماكينة ” الانتخابيّة للحزب المنحلّ، وربّما لنفس البرنامج الذي اعتمد طيلة العشريات الماضية، والجزء الثاني من حملته ستكون بالأساس نقديّة وبدون حدود لتجربة الترويكا وسيحملها كل صعوبات المرحلة ويقدم نفسه كبديل لمنظومة 23 اكتوبر.
هذه الاستراتيجيّة ليس من السهل ان يقبل بها المواطن والناخب عموما باعتبار ان الوجوه التي تبشر بالجديد هي نفسها التي تصدرت المشهد طيلة سنوات عديدة ولم يخلف تواجدها الا استفحال سياسة التهميش وارتفاع معدلات البطالة، وقمع المعارضين وواد الأصوات الحرة، فكيف لها ان تتغيّر بين عشية وضحاها لتصبح رموزا للانفتاح والحريّة والديمقراطيّة؟ ولا يمكن للنداء ان يخرج من هذا المطب الا بعملية نقد شجاعة لتاريخ التجمع وادانة دولة الاستبداد والفساد، وهو الخيار الوحيد الذي يمكن ان يفتح ثغرة له ثغرة في اوساط التّونسيين.
الاطراف اليسارية وفي مقدمتها الجبهة الشعبية، فمن المنتظر ان تواصل في نفس البرنامج المعتمد طيلة الثلاث سنوات المنصرمة والعمود الفقري فيه هي مناهضة الاسلاميين عموما وحركة النهضة خصوصا دون ادنى اشارة الى ما عاداهم لان حساباتهم القديمة والجديدة تؤكد ان لا امل في المشاركة في السلطة الا مع الطبقة المتنفّذة والمالكة بزمام الاقتصاد والإدارة، ولا يمكن لهذه السياسة ” ضد النهضة” ان يكون برنامجا حقيقيا يتعاطى معه التونسيون، كما ان مواقفهم من الحريات والديمقراطيّة يبقى النقطة السوداء التي يتحفظ إزاءها التونسيون وآخر هذه المواقف الحماس المفرط للانقلاب في مصر ومساندة ” حفتر” في سعيه إلى افتكاك السلطة في ليبيا بقوة السلاح وخارج دائرة الحوار الوطني.
وذكر هذه الأطراف لا يعني التقليل من شان أطراف سياسية عديدة أخرى كان لها حضور بارز في انتخابات 23 أكتوبر الماضية ومطالبة بدورها بمراجعة تعاطيها مع الاستحقاق الانتخابي المقبل.
ومن أهم المستجدات في هذه المحطة الانتخابية هو الإرهاب الذي أصبح التونسيون يعيشون على جرائمه الوحشية من حين الى آخر ويهم التونسيين ان يعرفوا خطط كل الأطراف للقضاء عليه ومن المنتظر ان يأخذ هذا الملف حظه في الاستراتيجيات الانتخابية لكل الأطراف، والسؤال الذي يتبادر لكل متتبع للحراك السياسي بتونس، هل أن الجميع سيتكتل من اجل دحر هذا السرطان، أم أن سياسة التوظيف وتبادل الاتهامات ستكون سيدة الموقف؟
تلك بعض المقدمات قبل انطلاق ضربة البداية لمرحلة جديدة في تاريخ البناء الديمقراطي لتونس الجديدة.