تتجه بلادنا بكل ثبات نحو إنجاز الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة في موعدها. وبقدر حرص أغلبية التونسيين أحزابا ومنظمات وجمعيات وشخصيات على إنجاح هذا الموعد التاريخي بكل حماس، تحرص أقلية في الداخل والخارج على مواصلة محاولات تعطيله أو على الأقل إرباكه والتشويش عليه بأساليب متعددة، حتى أنهم كلما فشلت محاولة استعاضوا عنها بأخرى.
لم يعد يخفى على أحد أن كلمة السرّ في الحملة ضدّ الانتخابات هي التركيز على بث الإحباط واليأس في صفوف التونسيين وتشكيكهم في إمكانية إجراء الانتخابات في موعدها، وفي إمكانية أن تكون مدخلا لتطوير أوضاع البلاد وحياة العباد إن تمت، مستغلين في ذلك حملة لتشويه القيادات السياسيّة الوطنيّة؛ لإخلاء الساحة من كلّ الرموز، وخلق الفراغ، واستفزاز الخصوم، والدعوة إلى تقسيم المجتمع والإقصاء، وافتعال الفرص لتوتير الأوضاع والتحريض على الصدام، وتعظيم وتضخيم الخطر الإرهابي والترويج لاستهداف بلادنا بهجوم بالطائرات مثلما حصل في أحداث سبتمبر 2001، أو الإنذار بدخول “داعش”.
كلّ ذلك وغيره ترهيب للتونسيين وتيئيس لهم من إمكانية الإصلاح في إطار خطة منظمة تعتمد على أذرع سياسية وإعلامية ومالية تنسق فيما بينها داخليا وخارجيا، وتتعاون ـ للأسف الشديد ـ على الإثم والعدوان لدفع الناس دفعا للندم على الثورة. إن رفض البعض في الداخل والخارج إجراء الانتخابات في موعدها (مهما حاولوا إقناعنا بصدق نواياهم وبأن موقفهم من باب النصيحة الخالصة لوجه الله) ما هو إلا فصل من فصول توجه إقليمي ودولي معزول وشاذ منزعج من الثورة أو معادٍ لها، وتعبير عن خيار رافض للديمقراطية في بلادنا وفي المنطقة، ومعادٍ لحرية الشعوب في اختيار من يدير شؤونها، ومناوئ لحكم الصندوق، وإنه لا يخالجنا شك في أن مآل مساعي هؤلاء الفشل والخسران لسبب بسيط هو أن الشعب الذي تذوق طعم الحرية والكرامة لن يفرط فيها ولن يقبل بالرجوع إلى الوراء إلى عهد الوصاية والتسلط والفساد، ولن يقبل بارتهان مستقبله لأقلية اعتادت احتكار السلطة والمال، خاصة بعد أن خبرها عقودا طويلة وناله ما ناله من فعلها من فقر واضطهاد ونكد…
وبناءً على ذلك فإنّ على القوى المؤمنة بالثورة كمكسب وطني أن تعي أنّ الثورة في بلادنا ليست مجرد لحظة عابرة، ولا هي مجرد تغيير في أعلى هرم السلطة، إنّ الثورة إعلان عن نهاية دولة الاستبداد والفساد بخياراتها وآلياتها، وإعلان عن بناء دولة ديمقراطية حديثة تقوم على المساواة بين كل المواطنين في الحقوق والواجبات على أنقاض الدكتاتوريّة.
والانتخابات المقبلة التي يتوهم البعض إمكانية إلغائها أو تأجيلها إنما هي ـ إن شاء الله ـ لحظة فاصلة في تاريخ تونس الحديث، وكلّ من يعيش على وهم الفرار منها كمن يحاول عبثا الفرار من مصيره المحتوم…
إنّها لن تكون مجرد عملية شكلية مثلما يحاول البعض إيهامنا بذلك لتثبيط الناس عن المشاركة، بل هي الجسر نحو تثبيت دعائم الدولة المدنية وتكريس مبادئ الدستور الذي توافقنا عليها ورضينا بها، وإغلاق للمنافذ أمام الاستبداد الذي هو قرين الفساد حتى إن كان تحت لافتة الدين أو الحداثة أو دكتاتوريّة البروليتاريا، إن الانتخابات جسر يعبر بنا إلى مقاومة الإرهاب وعزله وإنهائه؛ لأن الإرهاب الذي هو عنوان الانحراف في الفهم والدافع للغلو والتطرف إنما هو كذلك عنوان سياسات ظالمة اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية ودينية اعتمدها النظام السابق، وهي ليست إلا ثمرة فاسدة من ثمار سياسة تخريب التعليم وتجفيف منابع التدين التي خطط لها ونفذها بعض رموز الأحزاب التي تتظاهر اليوم بمعاداة الإرهاب ولم تثنهم الأعمال الإرهابية التي هي نتاج ما زرعوا من كراهيّة وحقد وتباغض في صفوف التونسيين عن مواصلة نفس النهج ونفس الأساليب دون أن يحرك فيهم ما قدّمته البلاد لمواجهة الإرهاب من ضحايا وتضحيات أيّة رغبة في مراجعة أنفسهم وسياساتهم. إنّ الانتخابات المقبلة هي الجسر ـ بحول الله ـ نحو تتويج مسار الثورة واستكمال أهدافها ومواصلة الجهد من أجل تحقيق طموحات التونسيين في إنجاز إصلاحات عميقة شاملة في كل المجالات تضمن الحق في الشغل والصحة والكرامة والحرية لكل أبناء الوطن دون تمييز ولا استثناء، وهي الجسر نحو تثمين المنجز ومراجعة النقائص والأخطاء وتجاوزها.
إن الانتخابات القادمة الشفافة والنزيهة لن تكون ـ بإذن الله ـ إلا فاتحة لمستقبل أفضل لن يقدر أعداؤها على تخويفنا منها؛ لأن شعلة الأمل في قلوبنا أقوى من الظلام الذي يخيفوننا به، وإرادة الحياة والنصر فينا أقوى بكثير من كل محاولاتهم لتثبيط عزائمنا، إنها طريقنا نحو الديمقراطية والحكم الرشيد التشاركي الذي يرفض الإقصاء على أساس ديني أو عرقي أو طبقي أو ايديولوجي. وإنّ الواجب الوطني في هذه اللحظة الفاصلة من تاريخ شعبنا يفرض على كلّ من له مصلحة في استكمال تحقيق أهداف الثورة والوصول ببلادنا إلى شاطئ الأمان وتعزيز ما تحقق من مكاسب وإنجازات وتطويرها ببناء دولة قويّة مهابة قادرة على توفير الأمن للجميع والتصدي للإرهاب والقضاء عليه وحماية الاستقلال الوطني وحرمة البلاد وحدودها وتجنيد كلّ الجهود وشحذ الهمم من أجل إصلاحات اقتصادية واجتماعيّة حقيقيّة وتحويل الحلم إلى حقيقة، وتوفير حاجيات الناس الأساسيّة من مأكل وملبس وتعليم وصحّة وشغل، أن يعي أنّ الخلاف مع دعاة إرباك الانتخابات ليس في من يفوز بأكثر مقاعد في التشريعيّة أو من يفوز في الرئاسيّة، بل في السير قدما نحو المستقبل لنبني الدولة الديمقراطيّة الحديثة التي تحتضن الجميع وتوحدهم على أساس المواطنة دون تمييز، وإلا فسنعود إلى التمييز والإقصاء والظلم والفساد كما كنا… إنّ الخلاف ليس خلافا شخصيا ولا حزبيا، إنّه خلاف في أن نكون أوفياء لدماء الشهداء الذين لم تجف دماؤهم بعد، أو أن نتركها وراءنا ظهريا ونجحدها.
إن حركة النهضة لا ترغب في الهيمنة والانفراد بالحكم وإقصاء من يخالفها الرأي والموقف بل إنها تؤكد رفض كلّ نزعات الهيمنة والانفراد والإقصاء… إنّه تأكيد منها على أنّ بلانا في حاجة لمن يوحدها ويقوّيها ويشجع أبناءها على أن يكونوا صفّا واحدا في مواجهة المخاطر والتهديدات، وهي في حاجة إلى مناخ من الحريّة والمساواة والعدل، وإلى خطاب وسياسات وطنيّة مسؤولة ورصينة تفسح المجال أمام الجميع مهما كانت انتماءاتهم للمشاركة في إدارة الشأن العام، وذلك لن يكون إلا بانتخابات حرّة نزيهة وشفافة يكون الشعب التونسي هو المنتصر والفائز فيها بغض النظر عن عدد المقاعد التي يمكن أن يفوز بها هذا الحزب أو ذاك؛ لأن تونس ومستقبلها ومستقبل أبنائها فوق كلّ الأحزاب.
إنّ بلادنا ليست في حاجة إلى أن يحكمها مستعلٍ يرفع بعض من ينتمي إليه، ويحتقر من ليس معه، بقدر ما هي في حاجة إلى حاكم يخدمها ويتعامل مع كلّ التونسيين بروح الأخوّة الوطنيّة والتواضع المحمود، وذلك لن يكون إلا بإرجاع القرار للشعب ولصناديق الاقتراع.