الآن وقد انجلى أكثر الغبار، وبدأت تتوضّح الرؤية، وقارب المسار الانتقالي على التتويج بانتخابات ستُخرج البلاد – بإذن الله – من المؤقت إلى الدائم، بات من الضروري إعادة فتح بعض الملفات المسكوت عنها ومحاولة تسليط الضوء على كثير من الخبايا التي ظلت أحْجِيَاتٍ دون أجوبة قطعية.
ومِن أهم القضايا التي شغلت الرأي العام بكل مشاربه السياسية والثقافية والشعبية … ولا زالت ثٌقْبا أسود لا يعرف كُنهَه إلا القليل، هو المسار الذي انتهجته حركة النهضة من توافقات وتنازلات انتهت بخروجها من السلطة.
لقاء باريس بين الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة الإسلامية وزعيم حركة “نداء تونس” الباجي قائد السبسي سليلَ التجمع المنحل، وإسقاط مشروع قانون تحصين الثورة وما تبعه من تمهيد لِعَوْدة رموز النظام البائد ثم التوافق على عدة بنود في الدستور أثارت كثيرا من اللّغَط، وما اتُّهِمت به حكومة الترويكا من تقاعُسٍ في فتح ملفات الفساد والمحاسبة، خصوصا بعد ما أطلق القضاء سراح رموز النظام ولم يُسعِف عائلات شهداء وجرحى الثورة، كل ما ذكرناه هي طلاسم لم تُفَكّ شيفراتها… ظلت تُهَمًا ترتقي إلى الخيانة لدماء الشهداء تطارد وتحاصر النهضة إذا لم تشفِ الغليل بأجوبة مقنعة وحجج دامغة ولم ترفع الحُجُب عن الملابسات والإكراهات التي أحاطت بفترة حكمها وكواليسها…
إن المدخل الرئيسي لفهم مسار النهضة في الحكم وبعده يَجِدُ منطلقاتِه في تجربة الحكم ذاتها، فالحركة وهي تلامس دواليب الدولة وكهوفها أدركتْ جُملةً من الحقائق لا يمكن تجاهلها ولا القفز فوقها، ولا يدركها إلا من اكتوى بِلَهيبِها:
• أيقنت أن الحُكم ليس أغلبية وأقلية، ولا انتخابات وصناديق، ولا شرعية و”صفر فاصل”، بل هو مَوَاقِع وتَمَوْقُع، واصطفاف وتَمَتْرُس، وموازين قوى داخلية وإقليمية ودولية…لا تملك الحركة منها مَوْطِئ قدَمٍ يشفع لها أو يُسنِدها أو يحمي ظهرها.
• أمكنها – عبر إدارة ما تيسّر لها من دواليب الدولة – الاطلاع على “الأعماق” وما يُحاك فيها من مؤامرات ومخططات، ومن كواليس وغُرَفٍ مظلمة، وما يُدبَّر بِلَيْلٍ بهيم بأقذر الوسائل.
• تَكشَّف لها حجم الدمار الذي أصاب البلاد طيلة عقود الاستبداد، والتَّرِكة الثقيلة التي ورثتها من ديون وتهميش وتفاوت ومظالم، مع كَمٍّ هائلٍ من الفِخاخ والألغام التي زرعها مرور قائد السبسي بالسلطة وحجم الارتهان الذي ورّط فيه الدولة، وما أحدثه إتلافه للأرشيف من إفراغ للملفات وثغور قانونية لا تسمح بالتحقيق أو المحاكمات، وما جرَّتُه آلاف الإضرابات العمالية والاعتصامات والحرائق والخروج على السلطة ودعوات العصيان والتمرد من شرخ في المجتمع، ومنسوب رهيب من الأحقاد والكراهية وإشاعة روح الإحباط والتثبيط.
• اطّلعتْ عن كثب على التحالفات والجبهات والحشود التي بنتها القوى المعادية لها – خصوصا اليسارية الاستئصالية – مع منظومة الفساد والاستبداد القديمة، والإسناد غير المشروط من قوى إقليمية مذعورة من الحراك الثوري ومن هبَّة الشعوب، والتوثّب الدائم لإجهاض التجربة الديمقراطية الوليدة، وقد زادت المخاطر بعد الانقلاب العسكري على الشرعية الانتخابية وخيار الشعب في مصر واستعصاء الانتقال الثوري في سوريا، وهو ما أغرى باستنساخ “التمرد” ومحاولة إسقاط الشرعية والاستعاضة عنها بشرعيات الدم والشارع…
• أحسّت بأن البلاد أصبحت على صفيح ساخن وأن التجربة الديمقراطية والوطن بِرُمَّتِه أصبح مُهدَّدا بأنهارٍ من الدم بعدما تكثَّفت عمليات الاغتيال والقتل والإرهاب والتهديد بالمحارق على منابر الإعلام، مع ما تجده من استغلال وتوظيف أرعن من قوى الردة يقودها إعلام منحاز وغير نزيه، كما تبيّن لها – أعني الحركة – أن رأسها هو المطلوب.
• اكتشفت أن حلفاءها قد خذلوها وكشفوا ظهرها حتى تبقى وحدها تُنازِل الجميع، وأن احتماءها بالشارع قد يرفع من وتيرة الاحتقان والتطاحن ليصل إلى مشارف التقاتل، وأن الخناق قد ضاق عليها ودفع بالبلاد إلى التعطل والشلل التام، وأن العديد من المنظمات والأحزاب قد عقدت عزمها على الدفع إلى الهاوية مهما كانت الخسائر في الوطن ما دام كل شيء سيُحسب فشلا لحكومة النهضة وتآكلا لرصيدها.
هنا أدركت الحركة أنها محاصرة في حقل من الألغام، وأنه لا بد لها من فعل شيء ما، تنازل، تكتيك، مناورة، تحييد،.إلخ؛ لأجل تحقيق هدفين اثنين على الأقل: الأول هو فَكُّ العزلة عنها وتحريرها من الضغوط والإكراهات والاستهداف، والثاني تجنيب البلاد السيناريوهات المُرعِبة كالفوضى الشاملة أو الانقلاب العسكري أو العصيان الكامل ومزيدٍ من الاغتيالات والقتل والإرهاب. فكان الخيار مقابل ذلك محاولة الدفع إلى مدار التوافق واستكمال المسار الانتقالي بدستور وهيئات ترتيبية وتنظيمية وقضائية كمدخل للوصول إلى الاستحقاق الانتخابي.
وضعية كهذه فرضت على النهضة إذن تكتيكَ ملاعبة الأفاعي ومحاولة ترويض الجميع، والرقص مع الذئاب، خيارٌ مِثْلُ هذا تطلّب حتما تضحية كبيرة وتجرّعَ السُّم، والتحلي بالثورية الواقعية بدلا من الثورية “المُتهوِّرة”، والتضحية بقدر كبير من سمعتها، وتحمّل تُهَمِ التخوين واحتمالات الانشقاق والتمرّد الداخلي، والتنازل عن بعض الخيارات …
لقد كانت الحركة مُحِقَّة وربما محظوظة؛ فقد آتت خيارات ثمارها، فتحقق الهدوء والاستقرار نوعا ما، واتجهت البلاد والنخبة الى انتخابات هي الاولى من نوعها في تاريخ تونس نتمنى ان تنجح وتثمر وطنا للجميع، ومسيرة تحقق التنمية والحرية والكرامة.