نقلت الثورات العربية المسألة الديقراطية من حيز التنظير النخبوي إلى رحاب الممارسة الجماهيرية. عندما كانت دولة الإستقلال تبرر تشكلها السلطوي في ستينات القرن الفارط بحجة أولوية التنمية ومكافحة التخلف وفي حالات عربية أخرى كانت محاربة العدو حجة في وجه مطالب الدمقرطة.
كانت الديمقراطية بما هي أوكسيجين الانتظام السياسي الحديث تنسحب من الفضاء العام ومن الفضاء العمومي. طيلة العقود الماضية تحول الوطن الذي حلمنا بتحريره وصناعة مجده إلى غرفة مسيجة بجدران عالية يحكمها زعيم هرم وتسود فيها رائحة عفونة تسد الأنوف وتحرس نوافذها المغلقة مجاميع من البوليس ومثقفي البلاط وإعلام التوجيه والدعاية. سجن كبير تنظمه قوانين صارمة ويحكمه فرد مستبد وتحرسه عائلات متصاهرة. سجن كبير سميناه تجاوزا “نظاما كليبتوقراطيا” أي نظام حكم اللصوص أي الأقلية الأقلوية المحمية داخليا وخارجيا بأضرابها من لصوص الأوطان والثروات والهويات. وواصلنا من داخله ومن خارجه النضال من أجل النظام الديمقراطي أي نظام حكم الشعب أي الأغلبية الساحقة المسنودة داخليا وخارجيا بأشباهها من شعوب الإنسانية التائقة للعدالة والحرية والكرامة.
لقد كانت الثورة بمثابة خلع عنيف لنوافذ السجن الكبير. مرحبا بالأوكسيجين فقد كاد الدخان والغبار والعفن أن يقتلنا كمدا قبل أن يقتلنا مرضا.
سعادتنا بالهواء النقي وقد حلمنا بنسائمه طويلا لا تعني أن مكامن الوسخ والقذارة قد زالت. عقود من الانغلاق قد تفرز حواضن فساد لا تراها العين المجردة ولا تطالها دغدغة النسيم العليل. سعادتنا بهذا “الإختراق” الثوري الهائل لا تعني أن السجن تحول إلى بيت وطني فسيح ولا تعني أن السجان والجلاد والحارس والمخبر قد تاب جميعهم عن امتهان البلاد والعباد.
صحيح أن الديمقراطية في نهاية المطاف هي الصندوق. ولكن أثبتت التجربة التاريخية أن الديمقراطية في السياق العربي والجنوبي عموما هي أكثر من صندوق. الديمقراطية هي سيادة الشعب على أرضه وقراره ومستقبله. هي تملك الشعب لثقافته وهويته وقيادته. هي أوكسيجين الفضاء العام وإكسير الحياة. الديمقراطية في نهاية المطاف هي أكثر من مجرد صندوق. إنها عنوان تحول حضاري ينقل العرب من موقع التابع والمغلوب إلى موقع الفاعل والمؤثر والواثق. وإن “موسم الثورات” رغم ما يبدو من هزال حصاده لقصيري النفس فإنه إيذان بميلاد جديد لشعب عربي أنهكته السجون الكبيرة وأرهقته الروائح الكريهة وأسعدته تباشير الهواء الصباحي النقي.