قررت حركة النهضة في اجتماع مجلس الشورى الذي عقد مؤخرا التخلي عن مبادرة المرشح التوافقي للرئاسة، وخيرت عدم الوقوف إلى جانب أي مرشح تاركة المجال للناخبين حتى يختاروا من يرونه الأصلح لهذا المنصب. عن موقفه من هذا القرار، وعن أولويات المرحلة القادمة والسياسات العامة التي ستنتهجها حركة النهضة في المرحلة المقبلة العجمي الوريمي عضو المكتب التنفيذي للحركة والمسؤول عن المكتب الثقافي يتحدّث للفجر :
* كيف تقيم حركة النهضة نتائج الانتخابات التشريعيّة ؟
حركة النهضة رسمت هدفين على الأقل قبل الانتخابات، الهدف الأول هو نجاح الانتخابات أي أن تكون حرة ونزيهة وشفافة وتعبر عن إرادة التونسيين، وتكون تجسيما لاختيار الشعب، والهدف الثاني هو الحصول على أفضل النتائج في هذه الانتخابات إن لم نقل الفوز فيها، بل كان الفوز هو هدف أبناء الحركة من وراء التنافس النزيه على المقاعد في مجلس الشعب القادم، ولهذا، فإن هذين الهدفين ليسا مفصولين عن بعضهما.
والحمد لله نجحت الانتخابات رغم ما شابها من إخلالات، وأقبل عليها التونسيون بنسب محترمة، وعبروا من خلال الصندوق على تمسكهم بالخيار الديمقراطي وتمسكهم بأنهم هم الذين يختارون من يحكمهم، وصار لهم صوت في هذه البلاد لا ينبغي أن يوضع للمزاد، بل يكون هو المحدّد للمشهد السياسي القادم، ويحدد من سيتحملون مسؤولية إدارة البلاد خلال الفترة القادمة، وأعتقد أن هذا بدأ يترسخ كتقليد في تونس، أي بناء المؤسسات على أساس الانتخاب والاحتكام إلى صندوق الاقتراع.
هذان الهدفان اللذان رسمناهما تحققا وابتعدا بتونس عن المخاطر، ونرجو أن تجعل الاستحقاقات القادمة تونس بمنأى عن المخاطر التي تهدد أمنها واستقرارها ووحدة مجتمعها واستقرار مؤسساتها، وعلى رأسها الدولة التي تبين بعد الثورة أنها في حاجة إلى بناء وإعادة تحديث وأن تكون لها مضامين ديمقراطية وأن تضخّ فيها دماء جديدة بتشريك القوى الحية وإعطاء مكانة ودور للشباب والنساء، وإشراك الجهات في رسم الخيارات والسياسات وإدخالها في فضاء الدولة.
قرأت قبل الانتخابات الكثير من التقارير والمقالات الصحفية التي تقول إنه مهما كانت نتيجة الانتخابات فإن حركة النهضة ستبقى طرفا أساسيا له دور مهم، وهي أحد مفاتيح المرحلة القادمة، وهذه قناعة لدى الجميع اليوم، ونتائج الانتخابات أكّدت هذه القراءات والتحاليل ولم تنفها.
*كيف تقيّم قرار مجلس الشورى بعدم الوقوف وراء أي مرشح للرئاسة؟ وهل يكون ذلك في مصلحة أحد المترشحين ؟
مجلس الشورى هو الذي يصادق على سياسات وخيارات الحركة الكبرى، وهو الذي تعود إليه القيادة التنفيذيّة في المنعرجات الكبرى وفي المحطات الأساسية وعند إعداد الخطط والبرامج وعقد التحالفات السياسية والاستعداد للمحطات و الاستحقاقات الكبرى وتحديد الموقف منها، ولذلك من الطبيعي أن ينظر مجلس الشورى في موضوع الرئاسيات في ضوء نتائج الانتخابات التشريعية. وقد سبق أن تدارس مجلس الشورى موضوع الانتخابات قبل انطلاق موعد الحملة الانتخابية، ومجلس الشورى قرر في إحدى دوراته أن تقدم الحركة مرشّحا للانتخابات الرئاسية، وأن تدخل الانتخابات التشريعية بكل ثقلها، وأن تعمل الحركة على أن لا تكون هناك هيمنة لطرف سياسي على السلطات العمومية وعلى الحكم، وأن يكون الحكم تشاركيّا، ويتواصل العمل بمبدأ التوافق وتجنيب البلاد الإقصاء والاستقطاب.
نتائج الانتخابات التشريعيّة قبلت بها حركة النّهضة وهنّأت الحزب الأول بفوزه، ولكنها أخافت فئات معينة من المواطنين ومن الناخبين الذين لم يتوقعوا هذه النتيجة، وأصبح لديهم توجس من أن تقع البلاد تحت هيمنة حزب معيّن أو أن تكون مهددة بتغوّل طرف من الأطراف، وهو ما يدل على أن البحث عن التوازن والتوافق والتشاركية أصبح اليوم قناعة عامة لدى التونسيين، وأصبح مطمحا ومطلبا لهم وليس فقط للنخبة السياسية أو للإسلاميين، وهذا الأمر هو ضمانة إلى حدّ ما حتى لا تشهد البلاد انتكاسة، ولا تعود إلى الوراء، وتستمر في الخيار الديمقراطي، ويكون هناك تكافؤ للفرص بين التونسيين في التماس واكتساب الحقوق في تحمّل المسؤولية وأداء الواجبات.
ولكن هل ستكون النهضة في المعارضة أم في الحكم؟
نتائج الانتخابات وضعت حركة النهضة في موقع قوة وفي وضع مريح باعتبار أنها جعلتها تختار بين أن تشارك في الحكومة إذا قُدم لها عرض مقنع، كما أنه بإمكانها أن تخوض تجربة المعارضة من جديد إذا لم يكن هناك برنامج وطني مشترك يكون لكل فيه موضع ومكان. وإذا لم يقدم عرض مقنع بحكومة وحدة وطنية موسعة يشترك فيها الجميع، فإن حركة النهضة بإمكانها أن تكون في المعارضة بصفة جادة ومسؤولة، وستكون معارضة قويّة ببرامجها ومقترحاتها.
في ضوء نتائج الانتخابات الرئاسية، وفي ضوء ما عند الآخرين من إرادة في العمل المشترك، ومن رغبة في الحكم مع الشركاء الايديولوجيين، سيتحدد قرار النهضة بأن تكون في المعارضة أو في الحكم، وفي كلتا الحالتين هي ستتصرّف كحركة مسؤولة عن استقرار البلاد وأمنها وتنميتها و مواصلة الإصلاحات العميقة والشاملة فيها، ولن تقف في موقع المتفرّج، بل ستكون طرفا فاعلا.
أعود أستاذ العجمي الوريمي معك إلى السؤال، وهو كيفية تقييمكم لقرار الحركة بعدم مساندة مرشح توافقي للرئاسة؟
النهضة تقدمت بمبادرة الرئيس التوافقي، وأجرت اتصالات بما يقارب 30 حزبا سياسيا له وجود وتأثير في الساحة السياسية وبعديد الشخصيات الوطنية، وحظيت الفكرة باهتمام سياسي وإعلامي في الداخل والخارج، ولم تعط هذه المبادرة ثمرتها المأمولة نتيجة عاملين: العامل الأول هو التطورات الأمنية المتمثلة في أحداث الشعانبي، والعامل الثاني هو مداهمة زمن تشكيل القوائم الانتخابية التشريعية الذي جعل الاتصالات تتوقف، وكل القوى الأمنية توضع لمجابهة هذا التحدي، وانصرفت الأحزاب لتشكيل قوائمها الانتخابية وانشغلت بأوضاعها الداخلية، ونحن نعرف الصعوبات التي واجهتها الأحزاب في تشكيل القوائم، فتوقفت مشاورات حركة النهضة عن مبادرة الرئيس التوافقي، ولم تتم العودة إليها إلا بعد إعلان نتائج الانتخابات التشريعية، ولم تأت الدعوة هذه المرة من النهضة التي لا زالت متمسكة بفكرة الرئيس التوافقي، وإنما أتت من بعض الأطراف التي تفاعلت مع نتائج الانتخابات التشريعية بطريقة إيجابية، وحرصت على إيجاد توازن سياسي وتوازن انتخابي، وأقصد هنا مبادرة الدكتور بن جعفر التي جمعت عددا من المترشحين من العائلة الاجتماعية الوسطية من أجل أن يتم التوافق بينهم على دعم مرشح وحيد للرئاسة مقابل تنازل الآخرين.
عندما كانت هذه المشاورات التي دشنها الدكتور بن جعفر في أوجها انعقدت الدورة 29 لمجلس الشورى، وكان المجلس أمام خيارين، إما أن يدعم أحد المترشحين، أو أن يدعو القيادة إلى الوقوف على الحياد باعتبار أن النهضة لم تقدم مرشّحا من داخلها للرئاسية، وكلا الخيارين له إيجابياته وله سلبياته. فالدورة 29 دعت المجلس التنفيذي إلى أن يواصل مشاوراته مع عدد من المترشحين، وأن يواصل المشاورات داخل الحركة ومع مناضليها، ثم ينظر نتيجة مبادرة الدكتور بن جعفر، وما حصل أن هذه المبادرة أعلن عن فشلها في بيان من قبل المشاركين وقالوا إنهم سيدعمون من سيصل من ضمن العائلة الديمقراطيّة الاجتماعية إلى الدور الثاني في الانتخابات الرئاسية، وهذا من العوامل التي ساهمت في عودة النهضة إلى خيار الحياد وعدم المضي في دعم أحد المترشحين؛ لأن 27 متسابقا على منصب رئيس الجمهورية كلهم نعتبرهم أصدقاء، وحتى عندما تقدمنا بمبادرة الرئيس التوافقي قلنا هذه مبادرة لا ترفع فيتو في وجه أي شخص معين ولا تصادر حق أي مترشح، وهي ليست عملية إخراج لتزكية أحد المترشحين، وهي ليست معترضة على مترشّح أو تتضمن تزكية لشخص معين.
في نفس هذا السياق في الدورة 30 لمجلس الشورى عندما ترجح خيار الحياد تجاه المترشحين قلنا لا يمكن أن نناصر صديقا ضدّ صديق آخر، ولا يمكن أن نقوي حظوظ أحد على حساب آخر، وسنترك الخيار لأبناء النهضة وللناخبين حتى يختاروا مرشحهم الأنسب.
* ولكنكم معنيون حتما بنتائج الرئاسية، فما هي دعوتكم للتونسيين؟
ندعو الناخبين للإقبال بكثافة على الانتخابات الرئاسية بما في ذلك من لم يصوتوا في الانتخابات التشريعية، كما نؤكد ضرورة التزام المترشحين باحترام أهداف الثورة والدستور والعمل من موقع رئيس الجمهوريّة على استئناف مسار الانتقال الديمقراطي وخدمة البلاد وتحسين صورة تونس في الخارج وإعادة هيبة الدولة وتعزيز مكانة تونس في العالم باعتبارها رائدة الربيع العربي.
*ما هي السيناريوهات المقترحة لتكوين الحكومة القادمة ؟
النهضة ليست مطالبة بتشكيل الحكومة، ولو فزنا بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعيّة، لاقترحنا حكومة وحدة وطنية واسعة، ولعرضنا على الأطراف التي وصلت إلى مجلس الشعب أن تكون ممثلة في هذه الحكومة، وحتى الأطراف غير الممثلة في البرلمان يمكن أن يقترح عليها المشاركة في هذه الحكومة حتى تكون قويّة وتعمل على إنجاز الأولويات المتفق عليها، وحتى تحظى بالدعم السياسي الواسع، أما الآن وقد باحت صناديق الاقتراع بسرها، وعرفنا الحزب الفائز، أعتقد أنّ رؤيتنا للحكم لم تتغيّر، ولكن موقعنا من الحكم سيتحدد في الفترة القادمة، فإمّا أن نكون في موقع الشريك الفاعل أو أن نكون في موقع المساهم في المعادلة السياسية من موقع المعارضة رغم أننا نعتبر أن الأفضل للبلاد في ظل هذه المرحلة الحساسة أن تكون هناك شراكة على أن تكون المعادلة قائمة على أغلبية من جهة ومعارضة من جهة أخرى، لأن إمكانية تعرض البلاد إلى أزمات سياسية قد لا تجعلها في مأمن من الانزلاق نحو الاستقطاب ونحو التجاذبات ونحو ضرب من ضروب الصراع بين الحكم والمعارضة.
وإذا أردنا أن نجنب بلادنا الانزلاق في مثل هذه السيناريوهات على الحزب الفائز أن يعي دقة المرحلة، وأن يعي مسؤولياته، وأن يتقدم للتونسيين ببرنامج إنقاذ حقيقي، وأن لا يتجاهل الواقع، ولا يتجاهل التحديات القادمة ومكونات المشهد السياسي، ويقدر إرادة الناخب التونسي حقّ قدرها، ويقدر المكانة التي تحتلها حركة النهضة، ولا ينظر إليها على أنها كتلة من الأصوات تعطى لهذا المرشّح أو ذاك، أو قوّة برلمانيّة يمكن أن تزكي خيار الحكومة فقط.
ولا ينبغي أن ينتظر أحد من النهضة أن تكون طرفا سلبيا خلال الفترة القادمة، بل ستكون طرف إيجابيا في البناء، ومسؤول في المعارضة، وطرف منحاز انحيازا كليا إلى الشعب وأولوياته.
* إذن ترون في مبدأ الشراكة في الحكم الأمر الأنسب لمصلحة تونس؟
قلت إن الناخب وضعنا في وضع مريح، وترك لنا الخيار، ونحن ندرس كل الاحتمالات، فإذا لمسنا جدية في التعامل مع موضوع المشاركة في الحكم قد يترجّح هذا الخيار لدينا، وإذا لمسنا رغبة عند الطرف المقابل أي الحزب الفائز في أن يبحث عن أغلبيّة دوننا، وفي أن يدير البلاد دون أن نكون شركاء شراكة تامة، فسوف نكون في صفّ المعارضة، والمعارضة الآن أصبحت مدسترة، وهي في الآن نفسه مسؤولية وشرف، ونحن سنكون مثالا للأمانة في الحكم أو في المعارضة.
* كيف سيكون دور حركة النهضة في البرلمان القادم؟
بكل تواضع أقول إنّ حركة النهضة هي الطرف الأكثر خبرة في الحكم، فإذا نظرنا إلى الأطراف التي حازت على مقاعد في البرلمان بدءا من الحزب الأوّل ووصولا إلى آخر طرف، نجد أنّ الطرف الذي مرّ بتجربة الحكم هو النهضة والترويكا، بينما الأطراف الأخرى ما زالت لم تخض هذه التجربة إلّا من خلال بعض قيادييها الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد.
النهضة بقيت في إدارة البلاد ما يزيد عن السنتين، وهي فترة مهمة للغاية، والنهضة لها الخبرات والكفاءات، وهي مطلعة على ملفات الدولة وعلى واقع ولايات وجهات الجمهورية، وهذه الخبرة سنضعها على ذمّة بلادنا.
النهضة من خلال الفترة التي قضتها في الحكم اكتسبت تجربة، وأصبح لها اطلاع على الملفات، وهي الآن على اضطلاع بواقع البلاد، ومن خلال الحملة الانتخابية أصبح لها اطلاع على التفاصيل وعلى الوضعيات الخصوصية لكل جهة من جهات البلاد، وهذه الخبرة نحن سنضعها على ذمة بلادنا، فالنهضة ستكون في المعارضة بنوابها الذين فيهم من كان رئيس حكومة سابق، وفيهم عدد من الوزراء، وعدد من النواب السابقين في المجلس الوطني التأسيسي، وفيهم قيادات من الصف الأوّل في الحركة، هؤلاء لديهم خبرة ولديهم تجربة طويلة، وقد ساهموا في صياغة الدستور والمصادقة عليه.
إذن نحن نقدم على المرحلة القادمة برصيد مهم جدا من الخبرة والتجربة والدروس وكذلك من الأخطاء والهنات ومجابهة الواقع والاحتكاك بالناس والاقتراب منهم، وأعتقد أن النهضة كانت في قلب المعادلة السياسية، وكانت قريبة من مشاغل المواطنين، ومحتكة بالتحديات التي عرفتها البلاد عن قرب، وهي جاهزة للحكم لو أنها فازت في الانتخابات التشريعية.
النهضة دخلت للانتخابات ببرنامج انتخابي، وهذا البرنامج ما زال بحوزتنا، وسندخل به في نقاشات مع الأطراف الأخرى، سواء نقاشات برنامج حكومة وحدة وطنيّة، أم مضامين ستحملها النهضة داخل البرلمان القادم.
*ما هي أولويات المرحلة القادمة ؟
أولويات المرحلة القادمة أولويات تنموية أمنية واجتماعية، إلى جانب تحويل الدستور إلى منظومات تشريعيّة وقانونية، وإلى جانب الإصلاحات الجذرية والعميقة التي تحتاجها البلاد والتي وضعنا أسسها خلال الفترة المنقضية، وينبغي الآن أن نمرّ إلى البناء الشامل الذي يجسد حلم التونسيين، كما أنه سيكون من أولويات المرحلة القادمة تفعيل قانون العدالة الانتقالية. وبالمناسبة أقول إن هذا القانون لفائدة تونس ولمصلحتها ولفائدة كل الأطراف؛ لأن الغاية منه ليست نبش دفاتر الماضي بقدر ما هي فتح آفاق المستقبل والتخفيف من أعباء الماضي والمضي إلى المستقبل بأمل جديد، وبتضامن ووحدة وطنية، وبأنفس مطمئنّة وقلوب متصالحة وصافية. فلا ينبغي أن يرى بعض الأطراف في استحقاقات العدالة الانتقالية استنقاصا من تجربتهم أو نيلا منهم أو من أدوارهم وذواتهم، بل هي في الحقيقة نوع من التطهير والمصالحة، ولا تهدف إلى تعميق الجراح وتوسيع الفجوة، بل بالعكس العدالة الانتقالية الغاية منها أن تكون حلقة تربط سلسلة الماضي بالمستقبل حتى نؤمن مستقبل أبنائنا، وحتى لا نضيّع الأمانة، وحتى يأخذ كل ذي حقّ حقّه، وتمحى المظالم.
نشر معهد كويليام البريطاني مؤخّرا في دراسة له إحصائية تبين وجود 3000 “إرهابي” تونسي ينتمي إلى تنظيم “داعش” ما رأيكم بهذا التنظيم؟ وماذا عن هذه الحصيلة؟
أنا لا يمكن أن أؤكد أو أنفي هذه الأرقام، ليس لدي اطلاع على هذه المسألة، ولكن مهما كان الأمر، فهذه نتائج وليست أسباب، ولا بد أن نبحث عن الأسباب الحقيقية التي تجعل الأوضاع متفجرة في العراق أو في سوريا أو في اليمن وليبيا، وتجعل بعض المجتمعات تتصادم فيما بينها، ويتم إقصاؤها أو تكفيرها وتصفيتها، وهذا الوضع مؤشّر من مؤشرات الأزمة الحضارية العميقة التي تعاني منها أمتنا، وينبغي البحث عن حلول جذرية واستراتيجية لهذا الأمر.
ونظرا إلى خطورة الوضع في المنطقة أعتقد أنه لا بد من إيجاد رؤية مستقبلية تأخذ بعين الاعتبار متناقضات الواقع وتركيبته، وتبتعد عن عمليات التبسيط، وعن الكليشيهات والصور الكاريكاتورية التي لا تجدي نفعا ولا تقدم حلولا، بل لا بد أن ننظر إلى الواقع كما هو وبشجاعة وأن نبحث عن الحلول.
تنامي هذه الأرقام لا تعنيني كثيرا بقدر ما يعنيني حجم المشكل وحجم التحدي وضرورة أن نتعاون جميعا في تخطيه وتجاوزه بأخفّ الأضرار بعيدا عن ضروب التوظيف والاستبداد والشيطنة والاستخدام الميكيافلي لبعض المعطيات خدمة لرهانات استراتيجية قد لا تريد الخير للأمة ولا تريد الخير لشعوبنا، بل من أجل مصالحها قد تدوس على المبادئ والقيم الكونية.
هل ترى أن تنظيم “داعش” يهدد أمن المنطقة العربية اليوم، ويشكل خطرا فعليا على شعوبها؟
أعتقد أنّ هذا التنظيم أوتي به لإيجاد حلّ ما للخلل القائم في التوازنات أو القرارات والموازين بين القوى الإقليمية والدولية، ولكن تحوّل من حلّ إلى مشكل، وهو الآن محل توظيف من جهات عديدة بشكل يجعل الرؤية ملتبسة، ولذلك أقول إنه يجب أن نتجنب القراءات التبسيطية والسطحيّة التي تسهم في التضليل ولا تسهم في توضيح الرؤية ومعالجة الموضوع، بل تفتح الطريق أمام خيارات ليست غايتها البحث عن حلول ومصالح الشعوب .
* ما هي هذه الحلول برأيك ؟
يمكن أن نشرك الخبراء وعلماء الدين والمختصين من الصادقين الذين يفكرون في مصلحة الأمة ومستقبلها والذين يحظون بثقة الشباب حتى يكون لهذه الحلول قبول ويكون لها أثر.
يجب أن نشرك الأطراف المعنية بالأمر والقوى الإقليميّة التي لها صلة مباشرة بالموضوع كإيران وتركيا وسوريا والعراق والسعودية وغيرها، هؤلاء يمكن أن يتعاونوا من أجل إيجاد الحلول وأن لا يكون التفكير بدرجة أساسية في الحل الأمني أو في مجابهة تنظيم بتقوية تنظيم آخر ، وبالتالي تكون هناك دورة عبثية لا تنتج إلا العنف الأقصى ولا تنتج إلا ضحايا.
*ألا تعتبر أن تونس هي طرف في هذه المعادلة على اعتبار الأشخاص المنتمين لتنظيم داعش؟
في بلادنا ليس لدينا مبررات لوجود مثل هذه التنظيمات، وقد أوجدنا الدستور والآليات التي تساعد على بناء المستقبل من خلال التعايش والحوار والتداول السلمي على السلطة، ووجود الشبان التونسيين في أي موقع في العالم يهمنا ويشغلنا، وأيضا ينبغي أن نبتعد عن التهويل والتضخيم والتوظيف ومعالجة هذه الظواهر وبالتفصيل وإن لزم الأمر حالة بحالة، ولكن بغاية إدماج أبنائنا في المجتمع وفي الحياة السياسية والوطنية وإقناعهم بأن تونس يطيب فيها العيش، وأن تونس لكل أبنائها، وأن في تونس هناك اليوم ضمانات دستورية لحرية التعبير وللتنظم والاجتماع وتحقيق أي طرف لطموحاته في إطار القانون وبضماناته.