لا يحتاج الأمر إلى كثير بحث أو نظر للتدليل على أن الطرف السياسي والأبرز الذي كان مقصيا من الحياة السياسية في تونس هم الإسلاميون وفي مقدمتهم حركة النهضة، وان المشهد بعد الثورة تغيّر بدخولهم معترك الحياة السياسية ومشاركتهم بقية الفصائل السياسية تحمل مسؤولية إدارة الفترة الانتقالية، ومثل بروز الإسلاميين وتواجدهم عامل توازن واستقرار للحياة السياسية، ولنتصور قليلا البلاد دون حركة النهضة، فلن تكون الصورة بعيدة كثيرا عن الصورة التي كانت قبل الثورة باعتبار الوضعية الصعبة التي تعرفها أغلب الأحزاب التونسية التي لازال اغلبها يبحث عن نفسه ويطور تجربته والياته ويوسع من دائرة إشعاعه.
الثورة مكسب لا يمكن إهداره
ومع تقدم حزب نداء تونس في الانتخابات التشريعية الأخيرة، ومع تعالي أصوات المعادين للخيار الديمقراطي والمكلفين بمهام الاستقصاء والإقصاء، استعاد التونسيين صور الحزب الواحد والصورة النمطية للحزب الحاكم التي عرفوها منذ الاستقلال وظهرت الخشية من أن تكون السنوات الأربع التي عاشوها بعيدا عن الهيمنة والتسلط في طريقها الى ان تكون حلما جميلا من الماضي. وان تكون الطموحات والامال التي بنيت مع قيام الثورة في طريقها الى التبخر والفقدان. ولا نظن ان التونسيين سيكونون فرحين بان يفقدوا ثروة معنويّة عظيمة توشح صدر بلادهم وتجعلها في مصاف الدول الكبيرة التي عرفت الثورات من اجل ترسيخ القيم الانسانية الخالدة. ولا نظن ان سياسيا مهما كان وزنه يقدم على اجهاض هذا الكسب المعنوي الكبير والرمي به عرض الحائط وان يكون السبب في عودة البلاد الى بداية الثمانينات او قبل ذلك. كما انه لا يمكن لاي سياسي مهما كان وزنه ان يوهم نفسه او اتباعه ان ما عرفته تونس نهاية 2010 وبداية 2011 هو حدث عرضي يمكن القفز عليه وعدم البناء الجدي على اثاره.
الإسلاميون الوافد الديمقراطي الجديد
فقدت حركة النهضة مرتبة الصدارة في الانتخابات التشريعية الاخيرة ولكنها خرجت منتصرة على اكثر من صعيد، اولها انتصار اخلاقي فقد كانت احرص الاطراف السياسية على احترام اللعبة الديمقراطية والالتزام الحرفي بكل النصوص القانونية المنظمة للعملية على خلاف خصومها السياسيين الذين اختاروا اكثر من وسيلة للتاثير يوم الاقتراع على الناخبين، وسائل يصعب ضبطها قانونيا ولكنها مكشوفة ومعلومة لدى الجميع، وثاني هذه الانتصارات انها برزت الممثل الابرز للتيار الإسلامي رغم ان راية ” الاسلام السياسي” رفعها عديدون في الانتخابات الاخيرة بعضها باسم السلفية او التجديد او التحديث. وثالث الانتصارات هو محافظتها على وزنها الانتخابي من حيث عدد الفائزين او من حيث الكتلة الانتخابية مقارنة مع سواها من الاطراف السياسية رغم عامل التهرئة الذي يتعرض له كل حزب متصدر لادارة الشان العام ورغم الحملات الاعلامية الممنهجة التي تطاله بمناسبة ودون مناسبة، واهم الانتصارات هو بروز النهضة كقطب سياسي مرشح بحصوله على الرتبة الثانية على التداول على ادارة البلاد. لكل هذه الاعتبارات تشعر حركة النهضة باهمية الارتقاء الى مستوى المكانة التي بواها اياها عدد كبير من التونسيين، ولا شك ان الحوار المعمق الذي يدور في كثير من أروقتها عن تطوير الهياكل والانفتاح على الكفاءات ومزيد الانخراط في الهموم اليومية للمواطن التونسي تعكس الجدية في بناء حزب عصري ديمقراطي يحوز على ثقة طيف واسع من التونسيين ومن النخبة ليكون رافعة حقيقية في البناء الديمقراطي الوطني.
النداء وحتمية الخروج من جلباب الأب
مهما كانت نتائج الرئاسيات، فان ما يعكس التمشي الديمقراطي في البلاد هو تشكيل الحكومة والفلسفة التي ستبنى عليها، فاما ان ينزاح المكلفون بتشكيل الحكومة الى عقلية عاطفية مراهقة قوامها الشعارات الجوفاء ويكون برنامجها معارك دونكيشوتية فيكون الالتقاء على اساس اقصاء حركة النهضة وما يترتب عن هذا الاقصاء من رسائل خطيرة سبقت الاشارة اليها في مستهل هذا المقال، اذ ان حياة سياسية دون حركة النهضة هي عودة بتونس الى ما قبل زمن الثورة وربما ابعد من ذلك، واما ان ينزاح المكلفون بتشكيل الحكومة الى عقلية المنطق السياسي السليم الذي يراعي طبيعة المرحلة، باعتبارها انتقالية وغير نهائية، وان كل الأطراف السياسية من حقها المشاركة في نحت مستقبل البلاد وان تونس غير مهيأة لحكم فريق واحد، فما بالك اذا كان هذا الفريق لم يقنع اقرب الناس اليه بالممارسة الديمقراطية، وان الشراكة السياسية لا تزال هي القدر والخيار الأسلم للتصدي للبناء الديمقراطي وللتنمية ولمخاطر الارهاب. وهذا الخيار هو الوحيد يحميه من اقتراف خطيئة تاريخية لا يمكن تداركها وهي واد ثورة التونسيين وإقصاء رموزها وإعادة تشكيل حلف الاستبداد وإحياء لوبيات النهب وهو ما يعني ان حكومة الشراكة الوطنية مكسب للنداء قبل ان تكون لمنافسيه ورسالة تصالح مع قطاعات واسعة من التونسيين عبروا عن هذه الخشية في انتخابات 26 اكتوبر وقد يعبّرون عنها بعد غد الأحد 23 نوفمبر، وهي الخطوات الحتمية التي على “نداء تونس” السير فيها للخروج من جلباب التجمع.