نصف ساعة بعد أذان المغرب كافية حتى تمتلئ الشوارع صخبا.. هكذا هم التونسيون، ميالون للفرح وحبّ الحياة..مساجد عامرة، ومقاهٍ مكتظة، وأسواق مزدانة بالسلع والهدايا، وسهرات عائلية تعيد الدفء للأسرة.
مساجد وقرآن
يحرص عدد كبير من التونسيين على الصلاة في جامع الزيتونة للتمتع بأجواء المدينة العتيقة وأزقتها التي تفوح بعبق التاريخ بعد أذان المغرب مباشرة. يقول عم الهادي الذي يزور جامع الزيتونة مع زوجته طيلة شهر رمضان: لا نصلي التراويح إلا في الزيتونة. هنا نحس بالاطمئنان والإيمان والسعادة. وتضيف زوجته: طيلة السنوات الماضية تعودنا على القدوم إلى جامع الزيتونة، وهي عادة لم نعد نطيق فراقها.
وفي أغلب مساجد العاصمة تغصّ المساجد بروّادها، وترى ساحاتها مليئة بالمؤمنين والمؤمنات الراغبين في الأجر ومزيد الثواب. كما تلاحظ أن كل المدن التونسية تشهد إقبالا منقطع النظير على صلاة التراويح رغم العمليات الإرهابية التي نغّصت على التونسيين اطمئنانهم وسعادتهم، ولكنك تجد نبرة التحدي لدى الكثير منهم. يقول عماد، وهو شاب في الثلاثين من عمره: نحن مسلمون، وهذا وطننا، وهذه مساجدنا، وهؤلاء المتطرفون ليسوا منا، ولن يرهبونا.. سنواصل الحياة بما يرضي ربنا، وبما يفيد بلدنا، وعندنا أمل في المستقبل.
أما في القيروان، فالمساجد عامرة، وتلاوة القرآن واختيار أجمل الأصوات للتلاوة وإتمام ختم القرآن الكريم واجتماع مئات المصلين في صحن جامع عقبة خاصة للصلاة والدعاء والابتهال تعتبر من أهم العادات القيروانية، فيما تواصل المدينة الاستعداد للاحتفال بليلة القدر التي يرحل إليها الكثير من التونسيون تعظيما وتشريفا وبحثا عن السعادة والاطمئنان.
مقاهٍ مكتظة
خطى متثاقلة تجرّ البطون المثقلة إلى أرصفة المقاهي، وحدهم المبكرون ينعمون بنسيم المجالس المفتوحة، في حين يحشر المتأخّرون داخل أفران الدخان و”الشيشة”، يسمعون جعجعة المكيّف، ولا ينالون غير العرق.
تسترخي الأرجل، وتُسند الظهور، وتنطلق الأيادي في نسقها السَنْفونيّ المُعتاد، هذا يُداعِبُ فنجان قهوتِه خانقا بيده الأخرى سيجارة، وآخر يلامس بيده بطنه المنتفخة ويزحف باليد الأخرى نحو أوراق اللّعب، يد تمسك الشيشة، وأخرى تقلب الجمر، والتلفاز مشوش الذّهن لكثرة الأذواق وفسيفساء البرامج. لا تستغرب إذا شاهدت مفيدة وأولادها في طائرة ميقالو المرعبة أو الفاهم وخميسة يفتحون الصندوق أو ربما سامي الفهري يُدير ناعورة الهواء أو علّه لطفي العبدلي يروّض أفاعي الجمعية..ما دامت الفواصل الإشهارية حافزا للقفز بين ما جنته مليارات المنتجين للتّرويح والتّرويج.
الوحيد المجبر على استخدام كل حواسه وأطرافه هو النادل؛ أذنٌ تستقبل، وعيون تتوقّع، ولسان ينقُلُ، وذهن ينسّق ويُنجز كل الحسابات، وهو لا ينفك يراوغ الطاولات لتلبية سيل الطلبات.. لا شيء يسعد المسكين مثل سماع أذان العشاء معلنا انتهاء الذروة، كثير من الحرفاء يلتحقون بالمساجد بعد أن سبقهم البعض ممن آثروا البرامج والمسلسلات الرمضانية على جلسات المقاهي.
أمهات في المطبخ
في السهرات العائلية تختلط الروح الايمانية بتبادل الزيارات، وتحضر الحلويات التونسية من مخارق وزلابية، ومقروض، وقرن غزال، مع قهوة عربي بالزهر.. اجواء عائلية تؤثثها في الأغلب النساء التونسيات اللاتي يفضلن الأجواء الأسرية على الخروج في سهرات رمضان.
ورغم تعب ربات البيوت والامهات في شؤون المنزل وخاصة المطبخ فهن يصنعن أجواء خاصة بهن تعطي نكهة خاصة لسهرات رمضان.
كما إن أكثر ما يسعد المرأة التونسية في رمضان هو حلولها ضيفة، إذ يمنحها لذّتين، أوّلهما حرمان الزوج المتغطرس من جلسة المقهى، وثانيهما استراحة من عناء الطبخ والتنظيف. لذلك تجد الكثير من النسوة يدفعن نحو التّزاور في الشهر الكريم، ليقل العناء ويطيب السهر..فيقتسمن التعب والمسؤولية.
من جهة أخرى تخطط بعض العائلات للسهر خارج البيوت ليخفف حضورها شغورا طالما عانته مقاعد المهرجانات، على غرار مهرجان المدينة. وعادة ما يميل التونسي لمثل هذه السهرات في النصف الثاني من الشهر الكريم طبعا بعد تلبية كل شهوات البطون وتقلص عناء الطبخ، وترجع السفرة في التقهقر إلى حجمها الطبيعي بعد أن أخذت من الجيب مأخذه.
هذا الجيب الذي لن يتوقف عن الدفع إلى حلول العيد حيث تجد التونسي كعادته حسن الهندام مُصفّف الشعر أنيقا عطِرًا نظيفا من المال مُثقلا بالدّيون..ورغم ذلك فهو ينتظر الشهر الكريم ويشتاق لرائحته، ويتفنن في الالتزام بعاداته سيئة كانت أم حسنة.
كيف لا، والشهر المبارك يصل الأرحام ويقرب العبد من ربه ويكسر روتين سنة بطولها حتى يجد المواطن البسيط النفس ليخوض سنة أخرى من الجهد في كسب قوته وإسعاد عياله، وتتحسس الأم فرحة العيد في عيون أبنائها بعد أن زال العناء وثبت الأجر إن شاء الله.