لا يمكن فهم الإطار الذي حصل فيه الشيخ راشد الغنوشي والأستاذ الباجي قايد السبسي على جائزة الرواد في بناء السلام من منظمة مجموعة الأزمات الدولية بنيويورك، والتي تأتي مباشرة بعد جائزة نوبل للسلام، إلا في إطار الإعجاب والدعم لتجربة تونس وثورتها ومسار التوافق الذي اختارته نخبتها السياسية. صحيح أن التحديات لازالت كبيرة أمام الشعب التونسي لتخطي الصعوبات الأمنية والاقتصادية ولكنه الشعب الوحيد في المنطقة الذي ظل ينحت تجربة سياسية سلمية متميزة منذ خمس سنوات، مازال الأمل قائما على تثبيتها وترسيخها، حتى تصبح تقليدا تونسيا ومثالا عربيا وعالميا في قدرة الشعوب الحرة على تقرير مصيرها.
الغنوشي أهدى هذا التكريم إلى الشعب التونسي وقال أن هذا الشعب قد أثار إعجاب العالم بإسقاطه للدكتاتورية بطريقة سلمية ثم لتمسكه بالحوار وبالديمقراطية. وهو هنا يشير بذكاء إلى ضرورة المحافظة على هذا الخيار السلمي رغم خطورة التحديات وكثرة المتربصين بالتجربة والأحداث الدامية التي تشهدها عدة أقطار بالمنطقة، وهو يؤكد كذلك للعالم أن طرق التغيير الأخرى التي تستعين بالانقلابات والفتن الداخلية والتدخل الخارجي غير مجدية ومدمرة ولا يمكنها أن تنجح.
كما خص الشيخ راشد في تصريحه عقب تسلم الجائزة المرأة التونسية بالتكريم لما قدمته وتقدمه من تضحيات من أجل تونس ومن أجل الحرية، وهو اعتراف وتقدير لدور المرأة وما يمكنها أن تقدمه في المستقبل. فالمرأة التونسية قدمت الكثير من التضحيات من أجل مستقبل أفضل لتونس، ولا يمكن نسيان تضحيات الآلاف من النساء بنات وزوجات وأمهات السجناء السياسيين والشهداء والجرحى، كما لا يمكن القفز على مساهمة المرأة في جميع مراحل النضال من أجل الحرية، وما تقدمه اليوم في مختلف المجالات.
في كلمته خلال حفل الافتتاح استعار الشيخ راشد الغنوشي قولة الرئيس ترومان الذي قال ذات مرة:… “إنه لأمر رائع ما يمكنك إنجازه، إذا كنت لا تهتم من سيكون الرابح”. وهذا الاقتباس كما قال الغنوشي: “يلخص تجربتنا على مدى السنوات القليلة الماضية. خلال المراحل الصعبة من التحول الديمقراطي في عام 2013، عندما كان الكثير من الناس على استعداد للتوقف، وعندما طالب البعض الآخر بالإطاحة بالبرلمان، ووقف عملية كتابة الدستور، و خلال تلك الفترة العصيبة، كان العامل الأكثر أهمية بالنسبة لي آمال وأحلام الأجيال في تونس – بل، وفي الواقع، في جميع أرجاء المنطقة، حيث يمكن لبلداننا أن تكون ديمقراطية، وأن تكون مسلمة وعربية وديمقراطية قدر الإمكان”.
ويضيف: “الأمر الذي كان أكثر أهمية بالنسبة لنا هو حماية الوحدة الوطنية وحفظ عملية الانتقال الديمقراطي. في تلك اللحظة الحرجة، اتخذنا قرارا صعبا للغاية، ونادرا ما قُدم من قبل الأحزاب السياسية – قررنا التخلي عن السلطة التي كنا قد فزنا بها عن طريق انتخابات حرة ونزيهة وقد قبلت شخصيا الدعوة من زعيم المعارضة آنذاك السيد الباجي قايد السبسي للانضمام إلى الحوار الوطني. وقد ساهم قرارنا في فتح الباب للاستثناء التونسي – جنبا إلى جنب مع الأطراف الأخرى – وقمنا بإعادة كتابة الدستور إلى مسارها وفتح الطريق أمام مستقبل ديمقراطي في تونس. وقد جاء هذا القرار بالطبع مقابل دفع ثمن سياسي باهض جدا، وهذا، بحد ذاته، ينبغي أن يعتبر سابقة في الحياة السياسية”.
في هذه الجائزة دعم معنوي كبير لتونس وللشعب التونسي واعتراف من كبرى عواصم العالم بأنّ نهج التوافق الذي اختارته تونس يحتاج إلى الترسيخ والى التمسك به كنهج لحلّ مختلف الخلافات التي مازالت تطل برأسها بين الحين والآخر. هي جائزة مهمة ولكنها لا يمكن أن تثنينا كشعب حرّ على مواصلة النضال والكدح اليومي من أجل إصلاحات اقتصادية واجتماعية عميقة ومواصلة الإصلاحات السياسية حتى تتحقق مختلف أهداف الثورة ومن بينها الحريات والكرامة والتشغيل لكل مواطن. جائزة لن تنسينا أبدا إننا نواجه تحديات كبيرة وفي مقدمتها الإرهاب الأعمى وخطر الانهيار الاقتصادي، وهي تحديات تحتاج الى الحكمة والوحدة الوطنية والى العمل، والابتعاد قدر الإمكان على إثارة القضايا الخلافية والجدل العقيم.