يوفال هاراري كاتب اسرائيلي مثير للجدل لكنه جدير بالقراءة. في آخر كتبه Homo Deus (الإنسان –الإله) يقول إن خَلق الأديان لم ولن يتوقف عبر التاريخ ومن ثمة ظهور دين معاصر يسميه الفردانية انطلق من أوروبا في القرنين السابع والثامن والتاسع عشر ألّهَ الإنسان دون أدنى مواراة (ومن ثَمّ عنوان كتابه)
من منكم سمع يوما بهذا الدين؟ هل هو دين سرّي كعبادة الشيطان؟ لا أبدا يقول هاراري، هو دين علني أوسع انتشارا حتى من الإسلام والكاثوليكية.
من الحُجج التي يسوقها الرجل:
– كل دين جديد بحاجة للتخلّص من المقدّس القديم واتخاذ مقدّس بديل، وهذا بالضبط ما فعلته الفردانية عندما استبدلت الخالق بالإنسان، لتجعل منه محل العبادة ومصدر التشريع والمرجع لفهم العالم وتغيّراته.
– كل دين جديد بحاجة لنبي أو لأنبياء، وهذا ما حصل مع ما سوّقته الفردانية من “أنبياء” علمانيين مثل روسو وفولتير ونتشه وآدام سميث وكارل ماركس.
– لكل دين جديد مشروع لتحسين حال الإنسان والعالم، وهذا ما فعلته ولا تزال الفردانية، متسلحة بثلاثة أذرع:
. الذراع الاقتصادي أي الليبرالية، وركيزته الفرد كمرجع أول في كل قضايا تنظيم الإنتاج والاستهلاك.
. الذراع السياسي أي الديمقراطية، وركيزته الفرد كمرجع أول في كل قضايا تنظيم الحكم.
. الذراع الأيديولوجي أي حقوق الإنسان، وركيزته الفرد كمرجع أول في تحديد ما هو الإنسان وما له وما عليه.
*
أعترف أنني انتفضتُ كمن أصيب بلدغة أفعى عند المقطع الذي يقول فيه هاراري إن حقوق الإنسان هي الذراع الأيديولوجي للديانة الفردانية. عرّفتُ نفسي دوما أنني عروبي غير قومي، علماني غير ملحد، ومسلم غير إسلامي. كيف أكون مسلما وأنا منتمٍ دون وعي لديانة أزاحت الإلَه من المركز لتضع بدله الإنسان؟
هل من باب الصدفة أن الكتاب الذي خصّصتُه للدعوة لحقوق الإنسان عنوانه الإنسان الحرام أي الإنسان المقدس؟ ألا يعني هذا انخراطي الكامل في منظومة فكرية استعملَتني أكثر مما أقبل الاعتراف به؟
بالعودة لكتاب “الإنسان الحرام” ولكتاب “حقوق الإنسان الرؤيا الجديدة” (وكلاهما متوفّران على موقعي) أمكنني أن أتنفس الصعداء وأنا أكتشف أنني دافعتُ عن حرمة الإنسان وقداسته لا لأنها مستمَدة من ذاته وإنما انطلاقا من مقولة “البعرة تدل على البعير” و”الأثر يدل على المسير”، ومن ثمّ المخلوق يدل على الخالق.
لكن بِغض النظر عن موقفي الشخصي، أحقّا حرّض الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على اعتبار الإنسان إلَها يجب أن ندين له بكل مظاهر التقديس، أم إن الرجل يتجنّى ويبالغ؟
ماذا لو كان هذا الإعلان الذي كتبتُ فيه الكتب وحاضرتُ حوله ما لا يُحصى من المحاضرات وحتى داخل القصر الرئاسي، بل ودخلتُ السجن من أجله، بحاجة للمراجعة ككل المعتقدات الأخرى؟
ها أنا أضع النص على طاولة التشريح الفكري، ربع قرن بعد أول قراءة له وبخبرة كل هذه الفترة من الزمان، والهاجس ألا أنظر إليه “بعين الرضا التي هي عن كل عيب كليلة”.
لنأخذ قائمة الحقوق والحريات المبوّبة في الثلاثين بندا للإعلان. هي بداهة قائمة حاجيات الإنسان الأساسية، هي متطلبات وشروط الوجود الكريم، هي أهداف البشرية وأحلامها. لكن كيف تبدو لنا إن نحن قرأنا أيضا بين سطورها؟
يكتب المشرّع العالمي في الديباجة: “ولمّا كان تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت الضمير الإنساني”.
جميل، لكن من تناسى حقوق الإنسان وازدراها وارتكب في حقه أعمالا همجية؟ مستعمر جاء من المريخ؟
من يمارس “التمييز بسبب العنصر، واللون، والجنس، واللغة، والدِّين، والرأي سياسيًّا وغير سياسي، والأصل الوطني والاجتماعي، والثروة، والمولد”؟ (الفصل 2)
من يتصدى لحق كل فرد في الحياة والحرِّية وفي الأمان على شخصه؟ (الفصل 3)
من يسترقُّ ويستعبد الإنسان ويمارس الاتجار بالبشر؟ (الفصل 4)
من يُخضع الإنسان للتعذيب والمعاملة والعقوبة القاسية واللاإنسانية والحاطَّة بالكرامة؟ (الفصل 5)
من يسمح لنفسه باعتقال أيِّ إنسان وحجزه ونفيه تعسُّفًا؟ (الفصل 9)
من يعاقب الإنسان على ممارسة حرِّية الرأي والتعبير، والتماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين؟ (الفصل 19)
من يمنع الإنسان من حقه في أجرٍ متساوٍ على العمل المتساوي وفي مكافأة عادلة ومُرضية تكفل له ولأسرته عيشةً لائقةً بالكرامة البشرية، وتُستكمَل عند الاقتضاء، بوسائل أخرى للحماية الاجتماعية؟ (الفصل 23)
الردّ على كل الأسئلة: الإنسان طبعا، أكان فردا أو جماعة منفلتة أو بشرا يديرون دولة.
ما الذي قفز فوقه المشرع العالمي وهو يبني للمجهول جريمة تناسي حقوق الإنسان؟ الطبيعة الحقيقية والمعقدة للإنسان.
بوضع الأمور في نصابها يتضح لنا أن الإنسان الذي يتحدث عنه المشرع العالمي هو جهرا كائن ضعيف معرّض طوال حياته للقتل والإذلال والعسف والتمييز والظلم والاستبداد والاستغلال الخ. هو سرّا وبصفة ضمنية كائن مرعب يمارس القتل والنخاسة والاستبداد والاستغلال والتعصب الخ.
لقائل أن يقول نسيتَ أن الانسان هو أيضا كائن لا يرضى بدور الضحية ولا يرضى بدور الجلاد، وهو الذي وضع هذا الإعلان” ليكون المستوى المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم حتى يسعى كل فرد وهيئة في المجتمع، واضعين على الدوام هذا الإعلان نصب أعينهم، إلى توطيد احترام هذه الحقوق والحريات”.