يظلّ فراقُ الكرام دائما صعْبا على الأوفياء، أما الأدعياء، فلا يَرْعَوْن لكريم وُدًّا ولا يحفظون عهدا.وكل عام ،يرى رمضان من هذين الفريقين ..العجب العجاب ،سلبا وإيجابا.
1) كلّ مَنْ أحْسَنَ العِشْرة والصحبة مع رمضان ..حتما سيفتقده إذا رحل ،وسيملؤه الحزن على الفراق، فيتمنى لو أطال معه المقام وتواصل مع الأيام . فهذا الذي سيودعه وداعا يليق بمقامه.على مذهب القائل: لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل.
وأما من أرهقه الصيام لضُعْفٍ في عزيمته ،ورهافة في إرادته، وانخرام لجيبه بسبب سَفَهٍ في الإنفاق ،وتهور في التصرف والتسوّق ، فانه حتما سيستبشر بالرحيل ويطير فرحا بغروب هلاله ويمتلئ ابتهاجا بانصرام أيامه .
2)أما الأول، فسيظل وفيًّا لعشرة الكريم، يحفظ العهد ويصون الود، من ذلك أنه سيصبغ بقية أيام العام بصبغة رمضان، صياما وقياما و إنفاقا وإحسانا وصلاح سمت.لأنه في حقيقته لم يكن رمضانيا صرفا، لم يلبسه ثلاثين يوما ثم سلخه مع أول هلال شوال، لأن رمضان عنده لا ينتهي عند العيد ولا ينقطع بانقضاء أجله الشهري بل هو مقيم وممتد بقيمه وآثاره.على مذهب الشاعر: – لك يا منازل في القلوب منازلُ –
رمضان في مفهوم هذا الصنف النادر من الصائمين، وفي وعيهم، هو عبارة عن منصة انطلاق..ينطلقون منها غانمين ، متزوّدين بمعاييره وأخلاقه وقيمه ليجدّدوا ويتجدّدوا ،ويغيّروا ويتغيّروا ،وينتجوا ويبدعوا ويمارسوا حياة جديدة أرقى مما كانت عليه قبل رمضان، بعزيمة وطموح الطالب المتخرج الناجح بامتياز ،المستوعب للدرس، الواعي بواجبه ،و بهمة وإرادة المنتصر على شهواته .
3)وأما الصنف الثاني،فسرعان ما سينتكس، ويعود إلى ما كان عليه من حال وسلوك قبل رمضان ،فيكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا .فهو لم يزد على أن تدثر برمضان شهرا ثم مع أول شوال سلخه ورماه كما يسلخ ثوبه عند النوم .فهو رمضاني وموسمي في علاقته بالصيام وهو من الذين قال عنهم القرآن:- يمنّون عليك أن أسلموا – يرى صيامه مَنًّا منه لله(مزِيَّة، كما نقول بالعامية ) ولهذا لا ترى لصيامه أثرا عليه بعد رمضان لا في إيمان ولا في سلوك ولا سمت ولا في معاملة .
وعند هذا الصنف، فرمضان ما هو إلا معطّل ظرْفِي ،حال دونه ودون مواصلة ممارسة حياته التي يعيشها على مذهب الأنعام بثلاثيته المعروفة الأكل والشرب والجنس ولذا تراه ينتقم من رمضان بعد خروجه مباشرةً، بتنمية مراتع شهواته وتنويعها وتوسيعها ،نشيطا كأنه فُكَّ من عقال، وحريصا كأنه خرج من اعتقال ، وهو يردد مع المُغرّدَ ة:
أعْطِنِي حُرّيَّتي أطْلِقْ يَدَيَّ *** إنّني أَعْطيْتُ ما اسْتبْقيْتُ شَيَّا
آهِ مِنْ قيْدِكَ أدْمَى مِعْصَمِي *** لِمَ أُبْقيهِ وما أبْقَى عَلَيَّ !!
– فكيف تريده أن يكون وفِيّا لشهْرٍ يراه قد قيّد حرّيته، وأدمى معصم شهواته. فلن يُبْقيَ من مفرداته ولا من قيمه شيئا تتدخل في أيامه الجديدة .
عبدالقادر عبار