1) دخل الدار عائدا من ضيافة صاحبه وهو يلهج بالحمد والشكر ، ثم نادَى زوجته :
– يا – امْرَا- ، قولي: الحمد لله.، احمدي ربك .
فوجئت المسكينة بصوته ،واستغربت من طلبه فقالت دون أن تشعر:الحمد لله .. – نِحْمدُوهْ ونُشْكْرُوهْ -..خيرا إن شاء الله ، آشْ ثَمّهْ ؟
قال وهو يرمي بجسده النحيف على فراش بسيط تعوّدت زوجته أن تعدّه له ليقيل عليه بينما هي تكون إلى جانبه تطبخ له- كاسْ تَايْ أحْمَرْ-:
– اليوم اكتشفت أننا أغنياء ونحن لا ندري ، وفي نِعمة، نحن عنها غافلون.ولها جاحدون.
– تساءلت المسكينة في سرّها مستغربة: قال نحن أغنياء ؟- وكتمت ضحكة كادت أن تفضحها -. وأين غنانا ؟ وتذكرت عجزهم عن خلاص فاتورة الضوء الأخيرة ..وبقية دَيْن علوش العيد وبقية دَيْن عند عطار الحي ..لا حول ولا قوة إلا بالله . ماذا أصاب الرجل ؟ ترى من كذب عليه وباعه الوَهْم ؟ثم استفسرت متهكمة: – لعلك عثرت على كنز؟
قال : بلْ ، أغلي من كنوز الدنيا، يا عزيزة..آه لو تعلمين..
ازدادت حيرة المرأة ولم تستوعب شيئا، ورأت كأنه يتكلم بالألغاز.
2) سوّت له كأس ألتّايْ ومدته إليه .أخذه ورشف منه رشْفةً تفنّنَ في رشْفها وكأنه يعبّر عن شعور داخلي يغمره بسعادة لم يحسّ بها من قبل. وكانت المسكينة تنظر إليه وهي وَلْهَى وحَيْرَى ، منتظرة تفسير ألْغازه.
قال الرجل وهو يحكي لها ما حصل على مائدة صاحبه :
– جلسنا يا عزيزة ،حول مائدة طويلة لا فراغ فيها ، تفيض بما لذ وطاب ،رأيت صاحب الدار قبل أن يأكل قد جاءته امرأته بكيس ، أخذ من بعض علبه حبّات دواء- حرابش- وبلعها بالماء.. ثم انتظر قليلا واخذ يأكل .. ثم عند ما انتهينا وشبعنا .. تمهّل قليلا ثم اخذ من علبة أخرى حبات دواء وبلعها ..ولأنه لاحظ عليّ بعض الاستغراب وأنا أرى ما يفعل قال لي:
– اِحْمِدْ ربّك يا صالحْ.. أنت تأكل من غير دواء ..هَاكْ تشُوفْ فِيَّ ما نَاكُلْ كانْ ما نَبْلَعْ هالدّوَاياتْ . . الله غالِبْ كُلْ واحِدْ ،بَاشْ ابْتَلاهْ ربّي . اِحْمِدْ ربّك يا صالحْ
كانت عزيزة تتابع حديث زوجها صالح وهي شاردة فمسكها من يدها وحرّكها ليوقظها من شرودها وهو يقول :
– ألسنا نتغدّى بلا دواء ؟ وننام بلا دواء ؟ لا سُكّري عندك ولا ضغط دم عندي ،ولا قرح معدة ..ولا شحم في الدم … فاحمدي ربك يا عزيزة.
3)كانت أمنيته من زمان ،هي أن يدخل بيت صديقه ويطلع على حياته الداخلية ويجلس معه على مائدة غدائه ولو مرة .هو صديق تربطه معه صحبة قديمة ، ولكن لم يسبق أن دخل داره .هو فلاح ينتمي إلى عرش فلاحين كبار تعطيهم الأرض مالا تعطيه لغيرهم ، وصاحبه كهل يشار إليه بالبنان في الإنتاج ألفلاحي ، منتوجه من الدلاع والبطيخ والطومسون والعنب والخوخ.. يدرّ عليه مئات الملايين في كل موسم ، فلا بد أن تكون حياته وعيشته وطعامه شيئا مغايرا للمألوف .هكذا كان دائما يحدث نفسه ..
هو لا يشك في أن مائدة غداء صاحبه الفلاح المليونير تفيض بزخرف التصنيفات والطبيخ والغلال واللبائن .ولكن ليس غرضه من الحضور أن يملأ بطنه من جوع أو أن ينعم بتخمة تنسيه بعض الخصاصة التي يعيشها ولكن فقط يريد أن يطلع على بعض ما خفي عليه من أمره . وشاء الله سبحانه أن هيّأ له فرصة للزيارة من حيث لم يحتسب ، فطرق عليه الباب ذات زوال يومٍ ،لأمرٍ مَا ،فما كان من صاحبه إلا أن أقسم عليه أن يدخل ويتغدّى معه.
كانت تلك الزيارة الأولى والوحيدة درسا ذهبيا لا تجود به المدارس ،اكتشف فيه انه لم يكن محروما كما يظن ،ولا فقيرا كما يبدو ولا مغبونا كما يشعر ..بل كان غنيّا وهو لا يعلم ومحظوظا وهو لا يشعر..فكيف لا يصبح لسانه رطبا بحمد الله؟.
عبدالقادر عبار