أعلن الدكتور منصف المرزوقي صدور كتابه الجديد تحت عنوان: ” المراجعات والبدائل ( أي أسس لفكر سياسي مجدد ) الصادر عن المركزالعربي للأبحاث ودراسة السياسات والذي قدم له الدكتور فيصل القاسم .
وقال الدكتور: أملي أن يساهم ولو بالقليل في إعادة النقاش السياسي الى السكة التي خرج منها وإلى المشاكل الحقيقية التي غابت فيفوضى غير مسبوقة داخل العقول والقلوب .
وأن شاء الله ستكون هناك أينما أمكن حلقات نقاش حول اطروحات النص لأن النسخ الورقية في البلدان العربية كما تتصورون ستكون اماممنوعة وإما جد نادرة.
وفي يلي مقدّمة الكتاب :
مَن منّا –مَعشرَ مثقفي جيلي ونشطائه السياسيين –لم يتعلّق يوما بواحدة من الأيديولوجيات الخمس ( الوطنية/ القومية ، التقدمية ، الليبرالية، حقوق الانسان /الديمقراطية، الإسلام السياسي ) منتظرا منها كل الحلول للمشاكل الفكرية والسياسية المطروحة عليه شخصيا وعلىالمجتمع الذي يتخبط داخله!
تعدّدت العروض المُغرية وكانت النتيجةُ دوما واحدة.
آمنا بالتقدمية ونحن مقتنعون أشدّ الاقتناع أنها ستخلصنا من سطوة الطبقات المستغِلة ومن ورائها أديان هي “أفيون الشعوب” ومآلها–طال الزمان أو قصر-“مزبلة التاريخ”.
كم فوجئنا ونحن نرى الدورَ الهائل الذي لعبته الكنيسة الكاثوليكية في تدمير الاتحاد السوفياتي، وأيضا كم كَذّبت العودةُ المظفرة للكنيسةالأرثوذكسية في روسيا أوهام الشيوعية وكيف أنها هي التي انتهت في المزبلة الشهيرة.
حدِّث ولا حرج عن دهشتنا أمام الموجة الإسلامية التي وَقف أمامها كلُّ غلاة الفكر التنويري في الغرب والشرق عاجزين عن أي تفسير لهاوأي تعامل عقلاني معها!
تعلّق الكثيرون بوعود الليبرالية الاقتصادية، وها هي اليوم في قفص الاتهام والنظامُ الرأسمالي المتولّد منها قد سبّبَ خرابا غير مسبوق فيالكوكب الأرضي.
كم كان فهمُنا للاستبداد ساذجا هو الآخر.
كانت الأيديولوجيا التي تَربّينا عليها لمناهضته منذ قرأنا الكواكبي تَحصرُه في خانة ضيّقة تشمل بعضَ الأشخاص المرضى الظالمينالفاسدين الذين سننتصر عليهم “حتما” نحن الأبرياء والمظلومون.
ها هو الاستبداد باق ويتمدّد، ربما لأن هدف الأغلبية ليس وَضع حَدٍّ للاستبداد وإنما التداولُ عليه، ربما لأن أكثرنا يحمل مستبدا داخله،ربما أننا لا ننقلب على المستبدّ إلا عندما يكفّ عن تمثيل طوائفِنا وقبائلنا وأشخاصنا، وعن الدفاع عن مصالحها الشرعية واللاشرعية.
كم اتضحت أيضا سطحية فَهمنا للديمقراطية ثم ممارستنا لها لاحقا. ظنَنا أن أول عدو لها هو الدكتاتورية، والحالُ أن عدوّها الأكبر كان ولايزال كامنا في آلياتها التي لا تعيش بدونها.
يا لخيبة أمل كل الذين آمنوا بأن الإسلام السياسي هو الحل، فإذا بجزئه المسلح ينتهي في أغلب الأماكن إرهابا أثار ضغينة العالم أجمعضد المسلمين. أما الجزء المدني منه فقد انتهى في أكثر من بلد عجلة خامسة لأنظمة الفساد التي ادّعى السعي للقضاء عليها.
كم كان تَصوّرُنا للثورة بعيدا عن الواقع ونحن نخلط بين رغباتنا وبين القوانين التي تسيّر المجتمعات. اعتقدَ البعض أنها الزرّ الذي نضغطعليه فنمرّ في لحظة من الظلمات إلى النور ليتضّح أنها مجرّد مُنعطف في طريقٍ يَعبر بنا نَفقا طويلا قد نخرج منه إلى النور وقد نبقىنتخبط داخل ظلماته مُتزايدة الكثافة!
كان الكّل يغني على ليلاه، قُل على أيديولوجيته، وكل واحد منا يظنها النظارات عن قرب وعن بُعد، والحال أنها كانت الغشاء الذي أحكمناهعلى أعيُننا.
هكذا تحوّل مفهوم الايدولوجيا شيئا فشيئا من منظومة الأفكار والمشاعر التي تعتنقها مرحليا مجموعات بشرية معينة تبني عليها تصوراتهاالفكرية للعالم وتُحدّد لها مواقفها وتصرفاتها تجاه كبرى القضايا السياسية والاجتماعية إلى مجموعة أفكار متكلّسة متحجرة سحرية منبتّةعن الواقع يبيع مشاريعها الفاشلة متعصبون لمغفلين.
ورغم التغيير المتسارع للعالم ووصول الأزمات الأمنية والمناخية والتكنولوجية والاقتصادية والسياسية إلى مستوى غير مسبوق خطورةوتعقيدا، فإن نفس الأيدولوجيات ما زالت تتحكم إلى اليوم في رؤيتنا للعالم وفي طرحنا للمشاكل وممارستنا للسياسات التي تسعى لحلّها.
هكذا لن ترى إلا أشخاصا ومجموعات تواصل تحريكهم نفس الأفكار والمواقف والتصرفات رغم كل ما تظهره التجربة يوميا من حدودالنظرية التي تحكمها وضعف النتائج على أرض الواقع.
اعتبر كمثال الأيديولوجيا الوطنية. إنها اليوم المحرّك لصراعات بالغة الخطورة بين أمريكا والصين، بين روسيا والغرب، بين الهند والصين بينالهند وباكستان إلخ.
المشكلة ليست فقط أنك أمام شعوب مدججة بالأسلحة النووية وإنما أن كل المكونات الموضوعية التي تأسست عليها هذه الأيديولوجيا مثل نقاءالهوية الوطنية ووجود حدود لا تخترق الخ لم تعد أصلا موجودة كما سنثبت ذلك لاحقا.
المحصّلة أننا أمام أزماتٍ أصبحَت تضع على المحكّ مصير البشرية، وفي نفس الوقت نحن لا نتوفّر لتحليل هذه الأزمات إلا على أيديولوجياتٍتقادمَت بل يمكن القول إنها اليوم جزء من المشكل أكثر مما هي جزء من الحلّ.
*
السؤال ألسنا بصدد النظر للأيدولوجيات ”بعين السخط التي تبدي المساويا ‘‘دون اعتبار الدور الإيجابي الذي لعبته في مراحل معينة منالتاريخ؟ نموذجا فضل التقدمية على الشعوب المستعمرة والطبقات المسحوقة.
لكن بالمقابل أليس هناك إجحاف في النظر إليها ”بعين الرضا التي هي عن كل عيب كليلة” بنسيان كل الكوارث التي تسببت فيها؟ نموذجاكارثة الوطنية النازية على الشعب الألماني وكل الشعوب الأوروبية وغير الأوروبية التي اكتوت بنار الحرب العالمية الثانية.
المطلوب للتقدم خطوة إلى الأمام بدل الدوران في نفس الحلقة المفرغة لا هذا ولا ذاك وإنما النظر إليها بعين الموضوعية كما يفعل رجل العلم.
يعني هذا ضرورة تغيير جذري في التعامل مع المسألة الأيديولوجية. كيف؟
في البداية يجب التخلي عن كل نقد أو تقييم لهذه الايدولوجيا أو تلك من وجهة نظر الايدولوجيا المنافسة. نموذجا نقد الماركسية للديمقراطيةوحرياتها ” الشكلية” في المواجهة مع الحريات ”الملآنة ‘‘التي ستحققها الشيوعية يوم تنتصر وعش يا فؤادي بالمنى.
مثل هذا النقد هو الذي تصدق عليه مقولة السيد المسيح: ترون القشة في عين الآخر ولا ترون الخشبة التي في عينكم.
الخطوة الثانية عدم التحيّل على القراءة الموضوعية بالانطلاق من أحكام مسبقة لأيدولوجيا مبهمة تشكلت في عقل الدارس ويؤمن وعيهالباطني أنها المقياس والمحرار لكل الأيدولوجيات.
ماذا يبقى؟ تفحّص الايدولوجيات بما هي البعد الفكري الشعوري المؤسس لتَجارب سياسية جبارة تسعى لإعادة صياغة مجتمعات بأسرها(نموذجا الشيوعية في الاتحاد السوفياتي طيلة سبعين سنة، أو الإسلام السياسي المتطرف طيلة بضع سنوات في ريف سوريا والعراق)
إذا قلنا إن الايدولوجيات هي المرجعية الفكرية للتجارب الساعية لبناء أو إعادة بناء المجتمعات البشرية المتحركة طول الوقت فهذا يحوّلانتباهنا من النظرية إلى التجربة نفسها بما أنها الدليل في آخر المطاف على صحة هذه النظرية أو قصورها.
المهم ليس هل صدّق الواقع ما جاء به المنظرون الأفذاذ وقد رأينا إن النتائج دوما بعيدة كل البعد عن الوعود الخلابة، إنما ماذا تعلمنا كلالتجارب الأيدولوجية عن مجتمعاتنا، عن أنفسنا، عن نجاعة أساليبنا في التعامل مع الصعوبات التي تتكاثر أمامنا؟ ما الأخطاء التيارتكبتها على طول الطريق وهل ثمة إمكانية للتعلم منها وتفاديها مستقبلا فنزداد خبرة في تكوين تصوراتنا للعالم ووضع الاستراتيجياتلرفع تحدياته؟
ويبقى أن الصعوبة الكبرى لاعتماد مثل هذه المنهجية وحتى استحالتها بالنسبة للبعض العائق النفسي الذي يواصل شعوريا أو لا شعورياالتفريق بين ”تجاربي الموعودة بالنجاح ” و” تجاربهم المحكوم عليها بالفشل”.
للخروج من هذا المنزلق الذي يتهدّد أي قراءة موضوعية للتجارب الأيديولوجية لا خيار غير اعتبارها كلها
” تجاربنا”.
إنها قفزة نوعية يسمونها في العلوم الطبيعية القطيعة الأبستمولوجية بدونها لن نحصل إلا على تواصل نفس الهراء التفاضلي حول أولويةهذه الايدولوجيا على تلك.
تتطلب هده القطيعة أن يغيّر المشاهد هويته وموقع المشاهدة ليس إلا. كيف، وهل الأمر ممكن أصلا؟
نحن لا نستطيع الحديث عن الايدولوجيات الخمس بما هي ‘’ تجاربنا” إلا إذا تخلّينا عن النظر للماركسية كإسلاميين وللإسلام السياسيكعلمانيين وللوطنية كعالميين وللعالمية كوطنيين متطرفين.
يجب أن نتسلق أكتافنا لكي نكبر وننظر إلى أبعد مما تعودنا عليه أي فضاء قناعاتنا الضيق المطوق بأسلاك شائكة من الأحكام المسبقةلنقبل بفكرة بديهية أن كل هذه الايدولوجيات تجاربنا نحن الجنس البشري، نحن الإنسانية.
هذا النص محاولة للتعامل مع إشكالية ”ماذا تعلمنا الايدولوجيات عن أنفسنا ” من وجهة النظر هذه وبكل الممكن من الموضوعية لذاتتتقاسمها كل المشاعر والأهواء البشرية.
الكتاب إذن ليس أطروحة أو دراسة علمية في الأيديولوجيات الخمس وإنما حصيلة تجربة طويلة مع هذه الايدولوجيات تشكلت على أساسهارؤية شخصية مطروحة للنقاش لا للفرض.
هو خلاصة أهمّ ما توصلت إليه من قناعات – منها قناعاتي الفلسفية بخصوص أمهات القضايا الفكرية – والتي حكمت ولا تزال كل مواقفيوتصرفاتي في المعارضة وفي الحكم.
هو خاصة مواصلة التزامي السياسي (ومن ثمّ أحيانا صبغته الدعوية).
إبان شبابي اتخذ هذا الالتزام شكل توزيع المناشير المنسوخة بطرق بدائية على أبواب المطاعم الجامعية.
اليوم في خريف العمر، يتخذ شكل هذا ‘’المنشور” الأخير والهدف قار لم يتغيّر منذ نصف قرن: التجنيد والتحشيد لقيم الحرية والعدالةوالكرامة بالتوجّه لأرقى ما في العقول وأصفى ما في القلوب خدمة لقضايا جديرة بكل التضحيات.
كما قال الشاعر والكاتب الفرنسي بوريس فيانBoris Vian ” الشيخوخة مثل تسلّق الجبال، بقدر ما تتقّدم خطوة بقدر ما تشعر بالإرهاقوبتقطع الأنفاس، لكن كم تتوسع نظرتك!”
هذه النظرة الواسعة –كل المكافأة على التقدم في العمر–هي التي أضعها على ذمة من يريد لعلها تساعده في شيء على اختصار الطريقإلى القمم.
النصّ موجّه بالأساس لنوعين من القراء.
النوع الأول عامة المهتمين بالشأن السياسي والعمل المجتمعي الذين اسميهم شعب المواطنين.
الأمل أن يساعدهم على تطوير أدواتهم المعرفية لأدقّ تحليل لكبرى القضايا فلا يخدعهم مخادع ولا يبيعهم دجّال شعبوي أحلاما غالبا ماتنقلب لكوابيس.
النوع الثاني الأجيال الجديدة من الفاعلين السياسيين ونشطاء المجتمع المدني.
كل الطموح أن يساعدهم الكتاب على تطوير أدواتهم المعرفية والعملية لرفع فعالية النضال من أجل القيم التي ضحى من أجلها شهداءناالأبرار والتي سخّرت لها مع الكثير من أبناء وبنات جيلي كل ما أوتينا من قدرة التفكير والعمل.
كما قال الفلاح لكسرى مستغربا رؤيته يزرع النخيل وهو على باب قوسين أو أدنى من الموت: زرعوا فأكلنا، نزرع فيأكلون.